من تراث الإمام البنا .. '' أيها الإنسان ما أنت ؟ '' *
" يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذى خلقك فسواك فعدلك * فى أى صورة ما شاء ركبك " ( الانفطار 6 – 8 ) .
أيها الإنسان ما أنت ؟
أما نحن المؤمنون المصدقون فنقول : أنت لطيفة ربانية ونفحة قدسية وروح من أمر الله ، خلقك بيديه ، ونفخ فيك من روحه ، وفضلك على كثير من خلقه ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك الأسماء كلها ، وعرض عليك الأمانة فحملتها ، وأسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة ، وسخر لك ما فى السماوات وما فى الأرض جميعاً منه ، وكرمك أعظم تكريم ، فخلقك فى أحسن تقويم ، وأعدك أكمل إعداد ، ووهب لك السمع والبصر والفؤاد ، وأوضح لك الطريقين ، وهداك النجدين ، ويسر لك السبيل ، فأنت بإذنه وصنعته تغوص فى الماء ، وتطير فى الهواء ، وتسابق الكهرباء ، وتحطم الذرات ، وتتجاوز بتفكيرك وتقديرك أقطار السماوات ..
فهل رأيت أجل وأعظم وأطهر وأكرم ؟
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر
أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر ؟ (1)
وأنت بعد هذه الحياة القصيرة خالد لا تبيد ، تحيا وتنشر ، وتبعث وتحشر ، وتستأنف حياة الكرامة فى دار النعيم والمقامة ، إن كنت أدركت سر مهمتك فى الوجود فأخلصت العمل للملك المعبود " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " ( الذاريات : 56 – 57 ) .
وما الموت الذى تخشاه إلا نقلة من هذه الحياة إلى تلك الحياة " وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون " ( العنكبوت : 64 ) ، وما هذا الجسم إلا قفص أنت فيه من المسجونين ، وثوب تخلعه إلى حين ، ثم يعود إليك يوم الدين ، ورحم الله العارف إذ يقول :
أنا عصفور وهذا قفص طرت عنه وبقى مرتهنا
أنا فى الصور وهذا جسدى كان ثوبى وقميصى زمنا
وأنا الآن أناجى ملأ وأرى الله جهاراً علنا
لا تظنوا الموت موتاً إنه ليس إلا نقلة من هاهنا (2)
ويقول الماديون الجدليون : أنت أيها الإنسان حفنة من تراب ، ونطفة من أصلاب ، قذفت بك الأرحام وأفنتك الأيام ، وابتلعتك الرجام ، ثم لا شئ بعد ذلك ، من يحيى العظام وهو رميم ؟
كذلك قال قدماؤهم " ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر " ( الجاثية : 24 ) ، وهكذا قال محدثوهم : أثر أنت من تفاعل العناصر المادية والتطورات الفسيولوجية ، فالشعور والوجدان والفكر والإدراك والعزم والإرادة كل أولئك من آثار المادة الصماء ، ونتائج اختلاط التراب بالماء ، وما الحياة إلا هذه الأيام المعدودات ، تقضى فيها اللبنات ، وتنتهز الفرص للذات .
إنما الدنيا طعام وشراب ومنام
فإذا فاتك هذا فعلى الدنيا سلام
تلك يا أخى قضية الحياة ، إن أمعنت فيها النظر ، وأجلت فيها الفكر ، ولم تكن من الغاوين المستهترين بوجودهم ، المحتقرين لإنسانيتهم .. استطعت أن تحدد فى الوجود غايتك ، وأن تتبين وسيلتك .
وكل الذى أنصح لك به أن تخلو إلى نفسك ساعة من ليل أو نهار ، لترى أفضل الرأيين ، وأثر الخطتين فى حياة الفرد والجماعة ، حتى إذا اقتنعت بالرأى الأول وهو الفطرة أقبلت على نفسك ، فاستكملت فضائلها ، وسموت بها عن سفاسف الأمور وصغار الغايات ، ووصلتها بربها العلى الأعلى ، وطهرتها بذكره وطاعته ومراقبته وخشيته ، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه ..
قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
ولا تستغرب أن يختار بعض الناس الرأى الثانى ، فهى الفتنة أو الهداية " واتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون " ( الأعراف : 175 – 176 ) .
ألهمنا الله وإياك الرشد وهدانا سواء السبيل .. آمين
======================
* جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 18 – ص1 – 23 جمادى الآخرة 1365 هـ / 24 مايو 1946 م .
(1) البيتان لسيدنا على بن أبى طالب رضى الله عنه .
(2) الأبيات لأبى حامد الغزالى .