نبذة عن حياة الإمام الشهيد
ولد الإمام حسن البنا في14 أكتوبر1906 في مدينة المحموديةبمحافظة البحيرة المصرية.
كان أبوه أحمد عبد الرحمن البنا من العلماء العاملين، اشتغل بعلوم السنة، وله عدة مصنفات في الحديث الشريف أهمها "الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد".
تبلورت شعلة الإيمان المقدسة في نفسه على مر الأيام، فاستطاع أن يترجمها إلى عباراته القوية فيما بعد، حيث يقول "والفرق بيننا، وبين قومنا أن الإيمان عندهم إيمان مخدر نائم في نفوسهم، لا يريدون أن ينزلوا على حكمه، ولا أن يعملوا بمقتضاه، على حين أنه إيمان ملتهب، مشتعل، قوي، يقظ في نفوس الإخوان المسلمين"
وترجمت حياته منذ سنواتها الأولي هذا الإيمان الحي اليقظ، ففي مدرسة الرشاد الإعدادية كان متميزًا بين زملائه، مرشحًا لمناصب القيادة بينهم، حتى أنه عندما تألفت "جمعية الأخلاق الأدبية" وقع اختيار زملائه عليه ليكون رئيسًا لمجلس إدارة هذه الجمعية.
غير أن تلك الجمعية المدرسية لم ترض فضول هذا الناشئ، وزملائه المتحمسين، فألفوا جمعية أخرى خارج نطاق مدرستهم، سموها "جمعية منع المحرمات" وكان نشاطها مستمدًا من اسمها، عاملاً على تحقيقه بكل الوسائل، وطريقتهم في ذلك هي إرسال الخطابات لكل من تصل إلى الجمعية أخبارهم بأنهم يرتكبون الآثام، أو لا يحسنون أداء العبادات.
ثم تطورت الفكرة في رأسه بعد أن التحق بمدرسة المعلمين بدمنهور، فألف "الجمعية الحصافية الخيرية" التي زاولت عملها في حقلين مهمين هما :
الأول : نشر الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ومقاومة المنكرات والمحرمات الفاشية.
الثاني : مقاومة الإرساليات التبشيرية التي اتخذت من مصر موطنًا، تبشر بالمسيحية في ظل التطبيب، وتعليم التطريز، وإيواء الطلبة.
التحق الإمام حسن البنا بعد إتمام دراسته الابتدائية بدار المعلمين عام 1920 حيث أتم حفظ القرآن الكريم قبل إتمام الرابعة عشرة من عمره... واشترك في جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية، وكانت الجمعية الوحيدة الموجودة بالقاهرة في ذلك الوقت، وكان يواظب على سماع محاضراتها، كما كان يتتبع المواعظ الدينية التي كان يلقيها في المساجد حينذاك نخبة من العلماء العاملين.
بيد أن ما رآه في القاهرة من مظاهر التحلل والفساد والبعد عن الأخلاق الإسلامية، جعلته يفكر في أن المساجد وحدها لا تكفي في إيصال التعاليم الإسلامية إلى الناس، وهنا تبدو عقلية البنا المبتكرة ؛ لأن الجمهور الذي لا يرتاد المساجد، أشد حاجة إلى الموعظة، وقد اقترح على جماعة من زملائه بدار العلوم وبعض أصدقائه الأزهريين أن يخرجوا للدعوة في المقاهي والمجتمعات العامة !! فعجبوا لفكرته، واستنكروها أول الأمر !! وانتهى الجدل بينهم أن تكون التجربة هي الحد الفاصل بين المضي فيها أو الإقلاع، وأظهرت التجربة نجاحًا عظيمًا لفكرته، شجعهم على الاستمرار فيها، وتخصصت منه شعبة تتولى نشر الدعوة الإسلامية في الريف والمدن أثناء الإجازة الصيفية، وأفادوا من هذه التجربة كسب الثقة النفسية، وحسن الأحدوثة في الأوساط الشعبية.
ثم اجتاحت مصر موجة من الإلحاد والإباحية، على إثر الانقلاب الكمالي في تركيا - إن صح هذا التعبير - وإلغاء الخلافة الإسلامية.
وكان لهذه الموجة الإلحادية رد فعل قوي، في الأوساط الإسلامية عامة، وفي نفس الأستاذ البنا خاصة، فكان يتحدث عن شعوره لكل المتصلين به من الزملاء، ولكل من يعرفه ويمكنه الاتصال بهم من الشيوخ والعلماء.
وكان ممن اتصل بهم المرحوم "السيد محمد رشيد رضا" والمرحومان "الشيخ الدجوي" والأستاذ الأكبر "محمد الخضر حسين" شيخ الأزهر السابق، والأستاذ الكبير "محب الدين الخطيب".
وقد تحدث معهم في ضرورة مواجهة الموقف بعمل إيجابي، فأثمرت هذه الجهود صدور مجلة "الفتح".
الإسماعيلية وتأسيس جماعة الإخوان المسلمين (1927-1933):
تخرج من دار العلوم عام 1927م، وكان ترتيبه الأول، وعيّن مدرسا ابتدائيا بمدينة الإسماعيلية علي ضفاف قناة السويس، فانتقل إليها وبدأ نهجا مدروسا في الدعوة، بعد ما أثر في نفسه ما رآه من الاستعمار العسكري المتمثل في المعسكرات الإنجليزية بالقناة، والاستعمار الاقتصادي المتمثل في شركة قناة السويس، ثم ساءه أن يعرف أن المسلمين في البلد منقسمين بسب خلافات دينية، نتيجة تعصب كل فريق لرأي خاص، فاعتزل جمهور المسجد، وعاد إلى جمهور المقاهي مرة أخري، واختار لذلك ثلاث مقاهٍ كبيرة، ورتب لكل منها درسًا في الأسبوع، وأخذ يزاول التدريس ويتحرى الموضوع الذي يتحدث فيه ؛ حتى لا يتعرض للنواحي الخلافية، ويضرب لهم مثلاً لتسامح علماء المسلمين في الصدر الأول رغم اختلافهم في الآراء.
وقد عمل الوعظ عمله في نفوس المتلقين، فأخذوا يفيقون ويفكرون، ثم تدرجوا من ذلك إلى سؤاله عما يجب عليهم تجاه دينهم وأمتهم، فأجابهم إجابات غير قاطعة جذبًا لانتباههم، واسترعاء لقلوبهم، وانتظارًا للفرصة السانحة، وتهيئة للنفوس الجامحة.
وفي ذي القعدة سنة 1347هـ، مارس سنة 1928م زار الأستاذ البنا أولئك الإخوة الستة : حافظ عبد الحميد، وأحمد الحصري، وفؤاد إبراهيم، وعبد الرحمن حسب الله، وإسماعيل عز، وزكي المغربي، وهم من الذين تأثروا بالدروس والمحاضرات التي كان يلقيها، وجلسوا يتحدثون إليه، وفي صوتهم قوة، وفي عيونهم بريق، وعلى وجوههم سنا الإيمان والعزم، وقالوا : ما الطريق العملية إلى عزة الإسلام، وخير المسلمين؟! ونحن لا نملك إلا هذه الدماء تجري حارة بالعزة في عروقنا، وهذه الأرواح تسري مشرقة بالإيمان والكرامة مع أنفسنا، وهذه الدراهم القليلة، من قوت أبنائنا، وكل الذي نريده أن نقول لك ما نملك ؛ لنبرأ من التبعة بين يدي الله، وتكون أنت المسئول بين يديه عنا، وعما يجب أن نعمل.
كان لهذا القول المُخلص أثره البالغ في نفس الأستاذ البنا، ولم يستطع أن يتنصل من هذه التبعة، وقال في تأثر عميق : "شكر الله لكم، وبارك هذه النية الصالحة، ووفقنا إلى عمل صالح، يرضي الله، وينفع الناس، وعلينا العمل، وعلى الله النجاح، فلنبايع الله على أن نكون لدعوة الإسلام جندًا، وفيها حياة الوطن، عزة الأمة".
وكانت بيعة، وكان قسمًا أن نحيا إخوانًا نعمل للإسلام، ونجاهد في سبيله.
وقال قائلهم: بم نسمى أنفسنا؟ وهل نكون جمعية، أو ناديًا، أو طريقة، أو نقابة ؛ حتى نأخذ الشكل الرسمي؟
فرد الأستاذ البنا قائلاً: لا هذا، ولا ذاك دعونا من الشكليات، ومن الرسميات، وليكن أول اجتماعنا وأساسه : الفكرة والمعنويات والعمليات. ونحن إخوة في خدمة الإسلام، فنحن إذن "الإخوان المسلمون".
وجاءت بغتة وذهبت مثلاً... وولدت أول تشكيلة للإخوان المسلمين من هؤلاء الستة حول هذه الفكرة، على هذه الصورة، وبهذه التسمية.
وهكذا غرست البذرة الأولى لفكرة الإخوان المسلمين في أرض طيبة من هذه القلوب الستة، آمنوا بها، عاهدوا الله على الجهاد في سبيله، فكانت تلك الثمار المباركة لوفائهم وإخلاصهم، من نجاح للدعوة، ومرشدها، مصداقًا لقول الله تعالى : (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(الفتح: من الآية10)
ولبث الأستاذ البنا يعمل لدعوته صامتًا، فكسبت دعوته - كل يوم - مزيدًا من الأنصار والجنود، بفضل إخلاصه العميق، وفهمه الدقيق للفكرة، وأهدافها.
ولاقت دعوته نجاحًا، فأغراه على مواصلة الكفاح، ودفعه الإيمان بالفكرة والحماسة لها إلى الفناء في سبيل نشرها، وإلى توسيع نطاق البيئة التي يعمل فيها، فلم يترك قرية، ولا بلدة، ولا كَفرًا إلا زاره، واجتمع بالناس فيها، في مساجدهم، وفي بيوتهم ؟! وكانت أسفاره في عطلته الأسبوعية، وفي عطلته السنوية في الصيف، ففي الأولى يزور البلاد القريبة، وفي الثانية يزور البلاد البعيدة.
وهكذا استمر الأستاذ البنا في نشر دعوته، في كل مكان يصل إليه في أسفاره البعيدة، أو القريبة.
وقد أثمرت أسفاره بعد سنتين شعبة في كل من "أبوصوير" و "بورسعيد" و "البلاح"، وبعد ثلاث سنوات شعبة أخرى في السويس، وبعد أربع سنوات نحوًا من عشرة فروع، معهداً بالإسماعيلية ؛ لتربية البنات، وإعدادهم ليكُنَّ أخوات مسلمات.
القاهرة وبناء الدعوة (1933-1949):
وبعد نحو خمس سنوات من تأسيس الدعوة بالإسماعيلية، نُقل الأستاذ البنا سنة 1933 إلى القاهرة، ودخلت الدعوة بنقله مرحلة جديدة، وإن ظلت سائرة على النهج السابق من كتمان وإسرار، ونزول إلى المساجد ووعظ بها، وتجميع الأنصار وتأسيس للفروع، بحذر وصمت، وذكر الأستاذ البنا في إحدى مقالاته المنشورة سنة 1934 ـ أي بعد مضي نحو عام واحد من إقامته بالقاهرة ـ أن فكرة الإخوان قد انتشرت فيما يزيد على خمسين بلدًا من بلدان القطر المصري، وقامت في كل بلد من هذه البلدان تقريبًا بمشروع نافع، أو بمؤسسة مفيدة، ففي الإسماعيلية أسست مسجد الإخوان، وناديهم، ومعهد حراء لتعليم البنين، ومدرسة أمهات المؤمنين لتعليم البنات، وفي شبراخيت أسست مسجدًا، وناديًا ومعهداً للبنين، وداراً للصناعة يتعلم فيها طلبة المعهد الذين لا يستطيعون إتمام التعليم، وفي المحمودية - البحيرة - قامت بمثل ذلك فأنشأت منسجًا للنسيج والسجاد، إلى جوار معهد تحفيظ القرآن الكريم، وفي المنزلة - دقهلية - أقامت معهدًا لتحفيظ القرآن، وقُل مثل ذلك أو بعضه في كل شعبة من شعب الإخوان المنتشرة من إدفو إلى الإسكندرية.
وكان منهاج الأستاذ البنا أن يزور المركز العام في الصباح الباكر، ويترك فيه مذكرات فيها توجيهات وأعمال تتطلب إنجازًا، ثم يقصد مدرسته، فإن كان مسافراً، يتوجه من المدرسة إلى المحطة، وإن لم يكن يعرج على المركز العام ثانية، يقابل ويوجه ويصرف ما يجد من عمل، وفي المساء يزور المركز مرة ثانية مقابلاً الوفد والزائرين، أو مجتمعًا في لجان أو محاضرًا، ولم يمنعه من ذلك متابعة أسفاره إلى الريف، في أثناء العطلة الدراسية.
أصدر الإمام حسن البنا مجلة "الإخوان المسلمون" الأسبوعية، ثم مجلة "النذير" وعدد من الرسائل التي جمعت في كتاب "مجموعة الرسائل"، ولم يفرغ رحمة الله للكتابة والتإليف بل كان جل اهتمامه منصبا علي التربية ونشر الدعوة، وعلي تكوين جماعة ما تزال رائدة البعث الإسلامي في العالم كله.
وفي هذه المدة اقتحم الإخوان الميدان السياسي، فبدأ الأستاذ بإلقائه أحاديث دينية واجتماعية بالإذاعة والأندية، وفي إرسال رسائل إلى رؤساء الوزارات المصرية المتعاقبة، من عهد محمد محمود حتى قيام الحرب العظمى الثانية، وكان محور الرسائل : الدعوة إلى الإصلاح الداخلي على أساس النظام الإسلامي، غير أن الإخوان لم يسترعوا نظر الحكومات، لأن نشاطهم السياسي كان مغلفًا بالطابع الديني فلم يبال به الرسميون.
وفي سنة 1355هـ - 1936م، أرسل الأستاذ البنا خطابًا إلى الملك السابق فاروق، والرئيس السابق مصطفى النحاس رئيس الحكومة حينذاك - وإلى حضرات ملوك ورؤساء الدول العربية، وحكام بلدان العالم الإسلامي المختلفة، وكثير من زعمائها الدينيين والسياسيين، رسالة عنوانها (نحو النور) يدعوهم فيها إلى طريق الإسلام، وأصوله، وقواعده وحضارته، ومدنيته، نابذين طريق الغرب ومظاهر حياته ونظمها، ثم يبين فيه خصائص كل من الطريقين، ويوضح بأن الإسلام كفيل بإمداد الناهضة بما تحتاج إليه في الجندية، الصحة، والنظام، والاقتصاد، وينتهي بالدعوة إلى أن يكونوا أول من يتقدم باسم رسول الله r بقارورة الدواء، ومن طب القرآن واستنقاذ العالم المريض، ثم يضع منهاجًا للإصلاح الشامل في مختلف مظاهر الحياة، محتويًا على خمسين بندًا، وكان أخطر ما في هذه الرسالة هو توجيه قوى الأمة السياسية وجهة واحدة وصفًا واحدًا.
ودخلت الدعوة من سنة 1936 حتى سنة 1945 طورًا جديدًا من حيث علاقتها بالسياسة وبداية الازدهار من حيث النشاط وتحقيق البرامج الواسعة، وتضاعف نشاط الإخوان، وانضم إليهم عنصرًا جديدًا من شباب جامعتي القاهرة والأزهر ومختلف الطوائف العمالية والمهنية، من عمال وتجار وصناع، وأصحاب أعمال ومهندسين، وأطباء ومدرسين ومحامين، وأصبح بها ممثلون لسائر طوائف المجتمع المصري، وضربوا في النشاط الاقتصادي بسهم وافر، وأقبلوا على النشاط الرياضي والكشفي، وانتظمت أعمالهم في الفروع التي ملئت القطر، وأصبحوا قوة يحسب لها كل حساب، وتوالى على حكم مصر في هذه الفترة من رؤساء الوزارات المصرية : على ماهر، وحسن صبري، وحسين سري، ومصطفى النحاس، وأحمد ماهر، والنقراشي، وإسماعيل صدقي، والنقراشي ثانية، وفي وزارات الأولين على ماهر، وحسن صبري دأبوا على الموعظة والنصيحة في كتبهم وخطبهم الخاصة والمفتوحة، شأنهم مع جميع الحكومات السابقة، وفي عهد على ماهر خاصة، أعلنوا تأييدهم لقراره تجنيب مصر ويلات الحرب فحسب، دون أن يقابلوه أو يتقدموا إليه بطلب معين.
وبدأت المحنة الأولى للإخوان على يد حسين سري، بضغط من السفارة والقيادة الإنجليزية فصادرت حكومته مجلتي التعارف والشعاع الأسبوعيتين، ومجلة المنار الشهرية، ومنعت طبع أي رسالة من رسائلهم، أو إعادة طبعها، وأغلقت مطبعتهم وحرمت على الجرائد أن تذكر شيئًا عنهم، كما منعت اجتماعاتهم، ثم عمدت إلى تشريد رؤساء الجماعة، فنقلت الأستاذ البنا من القاهرة إلى قنا، ونقلت الوكيل إلى دمياط، ثم أعادتهما بضغط من الحملة البرلمانية، ولكنها عادت إلى ماهر أعنف من ذلك وأشد، فاعتقلت الأستاذ البنا مرة ثانية، كما اعتقلت السكرتير العام ثم أفرجت عنهما لاتقاء ما أحدثه هذا الإجراء من حرج في صدور الإخوان.
ثم جاءت وزارة النحاس، ورغب الأستاذ البنا أن يرشح نفسه نائبًا في البرلمان عن دائرة الإسماعيلية، مهد الدعوة ليمثل الإخوان، وينطق بلسانهم، ولكن النحاس رجاه أن يعدل عن الترشيح فعدل، وبدأ النحاس بمهادنتهم، فسمح لهم بالاجتماعات، وأعاد إليهم المجلة والمطبعة، ثم تكرر ضغط السفارة الإنجليزية مرة أخرى، فعادت المحنة في صورة أشد من الأولى إذ أغلق النحاس جميع الشعب ماعدا المركز العام، وضيق عليهم في اجتماعتهم ومطبوعاتهم، وسائر نواحي نشاطهم، وقابلوا شدة الحكومة الأناة والصبر، فعدلت الحكومة النحاسية عن شدتها، واستمر الموقف بينهما يتقلب، تارة تدع الحكومة لهم الحرية فيعملون، وطورًا تراهقهم بالتضيق فيصبرون، ولكنهم ظلوا على عادتهم في تقديم النصح كتابة ومشافهة، إلى أن أُقيلت الوزارة سنة 1944.
وجاءت بعد وزارة النحاس أحمد ماهر، فأخذتهم بالشدة، حالت دون نجاح من رشح نفسه للنيابة عنهم، بناء على قرار مؤتمر الإخوان العام سنة 1941: بأن يرشح الأكفاء على أساس خدمة المنهج الإسلامي.
وحين أعلن أحمد ماهر الحرب على ألمانيا وإيطاليا، عارضه الإخوان، وكتبوا إليه بالعدول عن ذلك، ثم اغتال العيسوي أحمد ماهر لهذا السبب، وتولى النقراشي الحكم وبدأ باعتقال الأستاذ المرشد العام، والسكرتير العام، وبعض الإخوان ولعل السبب الرئيس في ذلك الاعتقال، أن العيسوي ذكر في معرض التحقيق معه، أنه يطلب أخذ رأي زعماء البلد في إعلان الحرب، وذكر اسم الأستاذ البنا في معرض أسماء الزعماء الذين يجب أخذ رأيهم، ولكن النيابة أفرجت عنهم بعد ذلك، وبادر الأستاذ البنا إلى زيارة النقراشي معزياً في ماهر، راجيًا أن يطلق له حرية العمل. بيد أن النقراشي لم يستجب إلى الرجاء، وفرض عليهم أثقل القيود في نشاطهم، واجتماعاتهم، ومراقبة دورهم، كان يسمح لهم بعقد اجتماعات عامة، أو مؤتمرات عامة، تحت ضغط الظروف، ولكن سرعان ما يعود إلى سياسة العنف والإرهاق.
وانتهت الحرب سنة 1945 ودخلت الجماعة بعد ذلك في دور المحنة الكبري، لأنها تزعمت قيادة الحركة الشعبية، وألهبت المشاعر الوطنية للمطالبة بحقوق البلاد التي وعد الإنجليز - أثناء الحرب - بتحقيقها، فور انتهاء الحرب وإعلان الهدنة، واجتمعت الجمعية العمومية للإخوان لتحقيقها في 8 سبتمبر سنة 1945، شوال سنة 1364، وأدخلت بعض تعديلات على النظام الأساسي حتى أضحى شاملاً لجميع غايتها ووسائلها بصورة واضحة، وأقاموا شركات اقتصادية متنوعة، درّت عليهم الأرباح، ومكنت لهم في أوساط العمال، وأصدروا جريدة يومية، صدر العدد الأول منها في 5 مايو 1946 الموافق 3 جمادى الثاني سنة 1365، وأضحى بذلك صوتهم مسموعًا في مصر والبلاد العربية وأنشأوا الكتائب، وأقاموا أماكن للتدريب على الأعمال العسكرية، وأوثقوا العهود بصورة بيعة لرئيس الشعبة فالمرشد العام شخصيًا وقرروا السمع والطاعة في المنشط والمكره، مقرونًا بالقسم، ووضعوا المرشد العام موضع الثقة التامة، وجعلوا له المنصب مدى حياته، ليس له أن يتخلى عنه، أو يُعفى منه، إلا بقرار من الهيئة التأسيسية.
وبلغ أعضاء الجماعة العاملين في مصر وحدها نصف مليون، والأعضاء المنتسبين والمؤازرين أضعاف هذا العدد، أما عدد شعبهم في مصر وحدها فبلغ ألفي شعبة، وفي السودان، حوالي خمسين شعبة، عدا شعبهم في معظم البلدان العربية، والبلاد الإسلامية، والأصدقاء في جميع البلاد وفي أوروبا وأمريكا، ولهذا لقيت الجماعة مقاومة في غاية العنف من قبل الحكومات التي وليت الحكم بعد الحرب الكبرى الثانية.
وزار الأستاذ البنا النقراشي ثانية، وأهاب به أنه يسرع بالعمل في سبيل الحقوق القومية، واستكمال استقلال وادي النيل ووحدته، وإلا فليدع الأمة إلى الجهاد، ويتقدمها في سبيله، وقدم النقراشي مذكرة إلي الحكومة البريطانية وجاءهم الرد عليها، ولم يرض الإخوان عن هذه المساجلة القليلة، وقاموا بمظاهرة مع الطلاب أدت إلى معركة مع البوليس في حادثة كوبري عباس الشهيرة، فاستقالت الوزارة.
وانصرف الإخوان منذ إعلان الهدنة إلى إثارة الشعب، وإيقاظ وعيه بالمؤتمرات العامة تارة، وزيارة القرى والريف تارة أخرى، وبالرسائل والأحاديث والنشرات تارة ثالثة، وتولوا زمام المعارضة الداعية إلى الجهاد، وتركزت جهودهم في هذه الناحية طمعًا في أن تنال البلاد استقلالها التام، وجاءت حكومة إسماعيل صدقي واشتدت المظاهرات!
ودعا البنا جميع الهيئات ؛ لتأليف لجنة قومية، توحد القوى، وتنظم الصفوف، ولكنه لم يجد مؤازرة من الأحزاب، وعندئذ رأى أن يجنح إلى النصح يقدمه إلى صدقي، على أساس قطع المفاوضات والالتجاء إلى الجهاد السافر .
واستمر نشاطهم السياسي في هذا النهج، وأخذوا يحاسبون الحكومة حسابًا عسيرًا، ويتهمونها بممالأة الأجانب على حساب الوطن، والتساهل بتأليف الشركات التي تلبس أثواباً مصرية مستعارة، وبعجزها عن علاج مشكلة العمال العاطلين، وبترددها في قطع المفاوضات، وإعلان الجهاد، واشتدت حملة جريدتهم على المفاوضات، وعلى حكومة صدقي، وعلى الإنجليز بوجه خاص وشن عليهم صدقي حملة، فاعتقل عدداً منهم، وصادر جريدتهم، ثم قبض على الوكيل العام، وقابله الإخوان بحملة مثلها، ووقعت انفجارات في القاهرة والإسكندرية، اتهمتهم الحكومة بها فحوصرت دورهم وفُتشت، قاد صدقي حملة واسعة النطاق من النقل والتشريد، تناولت أخلص الموظفين من الإخوان في شتى المصالح والوزارات.
واستقال صدقي، وتألفت وزارة النقراشي في 10 ديسمبر 1946 وفي يوم تأليفها نشر البنا مقالاً دعا فيه الحكومة الجديدة إلى اختصار الطريق، واحترام إرادة الأمة، وإنهاء المفاوضات، وسلوك سبيل الجهاد، ثم تابع نشر مقالاته في الجريدة مسفهًا منهاج الحكومة، مشيرًا إلى أنها حاربت الإخوان، وأغلقت مدارسهم، وسجنت أحرارهم ولاحقتهم بالتضييق والإرهاق.
وكانت هذه البداية حرب داخلية بين النقراشي والإخوان، زادتها قضية فلسطين، التي ساهم فيها الإخوان مساهمة فعالة، وكانت بالتالي محك قوتهم ونفوذهم من جهة، ومصدر عزة لهم في مصر والعالم العربى من جهة أخرى، واشترك الإخوان في المعركة تحت إشراف الجامعة العربية، وكان لهم هذا الاشتراك المسلح فرصة للتمرُّن على القتال، كما كشف عن مدى استعدادهم الحربي ومدى نفوذهم، وخشيت حكومة النقراشي سلطتهم، فاغتنمت فرصة وقوع حوادث عنف في داخل القطر، واتهمتهم بأن لهم ضلعًا فيها، وأنهم ينوون إحداث انقلاب، فأصدرت أمرًا عسكريًا رقم 63 مؤرخًا في 8 ديسمبر 1948 "بحل جماعة الإخوان وشُعبها أينما وجدت، وبغلق الأماكن المخصصة لنشاطها، وبضبط جميع الأوراق والوثائق والمجلات والمطبوعات والمبالغ والأموال وكافة الأشياء المملوكة للجمعية"، وتبع هذا الأمر صدور أوامر عسكرية أخرى، بتصفية شركاتهم، والعمل على استخلاص أموال الجمعية لتخصيصها في الوجوه العامة التي يقررها وزير الشئون الاجتماعية، وحاول البنا أن يسد هذه الثغرة، ويسوي الموقف، ولكنه لم يجد من النقراشي وحكومته أدنى استعداد، حتى قضى مقتل النقراشي في 2 ديسمبر 1948 على هذه المحاولات، إذ اتهم الإخوان بقتله مما زاد الموقف حرجًا بينهم وبين الحكومة.
وقد تنبأ الأستاذ البنا بحصول كل هذه المحن وطالما كان يتحدث عنها وكأنه يراها، ويبين أن هذه هي سبيل أصحاب الدعوات، ويضرب الأمثال بما حدث للمجاهدين والنبيين من قبل، وكأنه وثق منها حتى أصبحت عقيدة راسخة في رأسه، فسجلها للإخوان في إحدى رسائله يقول
أحب أن أعرفكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها، ويدركون مراميها وأهدافها، ستلقى منهم خصومة شديدة، وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيرًا من المشقات، وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات، أما الآن فلا زلتم مجهولين، ولا زلتم تمهدون للدعوة وتستعدون لما تطلبه من كفاح وجهاد، سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التدين من العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام، وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجوهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم، وأن تضع العراقيل في طريقكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة، والأخلاق الضعيفة، والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال، وإليكم بالإساءة والعدوان، وسيثير الجمع حول دعوتكم غبار الشبهات، وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، معتدين بأموالهم ونفوذهم وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2) ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين، ومثوبة العاملين المحسنين.
ولكأن الرجل الملهم كان ينظر بعين الغيب، فقد تحقق بعد الحل كل ما كتبه في هذه الرسالة التي كتبها للإخوان قبل نشوب الحرب العظمى الثانية وقبل أن تحل تلك المحنة بسنوات، وإن كان قد عكف على تكرار هذه المعاني قبل المحنة مباشرة، حتى يعد الإخوان لاستقبالها فلا يصدموا بحقيقتها المروعة، ووسائلها التي أعادت إلى الأذهان صور محاكم التفتيش الأسبانية.
وقد صدقت جميع نبوءاته حتى في رجال الدين أنفسهم، فقد تطوع منهم من ألقى حديثًا في الإذاعة يؤيد به ما ذهبت إليه الحكومة من نفي للإخوان، مستدلاً بالآية الكريمة (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ)(المائدة: من الآية33) وعُلقت هذه الآية الكريمة في معتقل الطور وسائر المعتقلات ليقرأها الإخوان بأمر إدارة تلك المعتقلات، وواضح أن في ذلك ما فيه من معاني التحدي، والاستفزاز للشعور، والإيلام النفسي للإخوان باتهامهم بأنهم يحاربون الله ورسوله، مع أن هتافهم، الله غايتنا، والرسول زعيمنا.
وقد فرح أعداء الإسلام داخل مصر، وخارجها عندما علموا بنبأ قتله.
وقد حرص الإمام حسن البنا علي ألا تكون حركته إقليمية في حدود القطر المصري، بل كانت عالمية بعالمية الدعوة الإسلامية، لذلك وجدناها تمتد في الأربعينيات لتشمل العالم العربي كله، ولتنطلق بعد ذلك في أقطار العالم الإسلامي مركزة علي الدعوة في كل مكان. وكان الإمام حسن البنا رحمه الله يرسل المبعوثين إلي أقطار العالم يتفقدون أحوال المسلمين وينقلون إلي القاهرة صورة عن واقع العالم الإسلامي.
وكان المركز العام بالقاهرة ملتقي أحرار المسلمين في وقت كانت فيه معظم أقطار العالم الإسلامي رازحة تحت الاحتلال الأجنبي، فمن رجال حركات التحرير في شمال إفريقيا، إلي أحرار إليمن، إلي زعماء الهند وباكستان وإندونيسيا وأفغانستان، إلي رجالات السودان والصومال وسوريا والعراق وفلسطين.
كان الجهاد في سبيل الله عنصرا أساسيا ترتكز عليه دعوة الإخوان المسلمين. وكان للقضية الفلسطينية عناية خاصة لدي الإمام البنا، وكانت له نظرة ثاقبة في موضوع الخطر إليهودي، وكان الإخوان المسلمون منذ بداية الثورة الفلسطينية عام 1936 هم دعاة التحذير والتحرير في العالم العربي. ولما دخلت الجيوش العربية فلسطين عام 1948، خاض الإخوان المسلمون الحرب في كتائب متطوعة عبر الجبهة الغربية من مصر، والشرقية من سوريا وأبلوا فيها أحسن االبلاء.
بعد ذلك مباشرة صدرت الأوامر من الدول الغربية الكبري للحكومة المصرية بحل جماعة الإخوان المسلمين واعتقال رجالها العائدين من القتال، وذلك بعد النكبة وتوقيع الهدنة.
أعلن النقراشي (رئيس وزراء مصر) في مساء الأربعاء : 8 / 12 / 1948م قراره بحل جماعة الإخوان المسلمين، ومصادرة أموالها واعتقال معظم أعضائها.
وفى اليوم التالي بدأت حملة الاعتقالات والمصادرات، ولما همّ الأستاذ حسن البنا أن يركب سيارة وُضع فيها بعض المعتقلين اعترضه رجال الشرطة قائلين : لدينا أمر بعدم القبض على الشيخ البنا. ولكن البنا أصرّ على الركوب في سيارة المعتقلين، فعادت السلطات وأطلقت سراحه، فصرح عندئذ بقوله : أنتم تقتلونني بعدم القبض علىّ. وقال أمام مجلس الدولة : إن قرار حلّ الإخوان صدر عن اجتماع عُقد في ثكنات الاستعمار. وأخذ يتردد على جمعيّة الشبان المسلمين، وحدثَّهم مرّة قائلاً لهم : لقد جاءني سيدنا عمر في الرؤيا يُنبَّئني بأعلى صوته : سَتُقْتلُ يا حسن. ثم قُمتُ وتهجدت إلى الفجر.
ثم صادَرت الحكومةُ سيارة الإمام الخاصّة، واعتقلت سائقه، وسحبت سلاحه المُرخص به، وقبضت على شقيقيه اللذين كانا يرافقانه في تحركاته. وقد كتب إلى المسئولين يطلب إعادة سلاحه إليه، ويُطالب بحارس مسلح يدفع هو راتبه، وإذا لم يستجيبوا فإنه يُحَمّلهم مسؤولية أيّ عدوان عليه لكن الأمور كانت مرتّبة فتتابعت الحوادث سريعًا، حيث كان الأميرالاي محمود عبد المجيد المدير العام للمباحث الجنائية بوزارة الداخلية يُدبر أمر اغتيال حسن البنا، واستخدم في ذلك عصابة من الأمن المصريّ "ووضع تحت تصرفهم سيارته الرسمية رقم 9979. وتفصيل ذلك في مفكرة النيابة العمومية المصرية سنة 1952م.
محاولات اغتيال الإمام قبل 1949
لم يُحِطْ الغموض قضيةً من قضايا الاغتيال السياسي بمثل ما أحيطت قضية اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، وأول مرشد لها.
لقد اغتيل الإمام حسن البنا في 12من فبراير سنة 1949م= الموافق 14من ربيع الثاني 1368 هجريًّا، يوم عيد ميلاد الملك السابق فاروق أحمد فؤاد، فكان اغتياله هديةَ عيد ميلاد ملكٍ جلَب الدماء لشعبه.. لقد حاول المجرمون طمسَ الجريمة وإخفاءها حتى لا تَصِلَ يدُ العدالة إليهم، ويضيعَ الدمُ الزكي، والروح الطاهرة هدرًا.
انتهى التحقيق في القضية إلى حفظها ثلاث مرات لعدم معرفة الجناة، وجاء حسين سري باشا، وفتَح التحقيقَ من جديد، والذي انتهى أيضًا إلى الحفظ، وجاءت أيضًا وزارة النحَّاس باشا ووعَدت الإخوان بالقبض على مَن قتل مرشدَهم، ولكنها لم تفِ بوعدها وانتهى أيضًا التحقيق إلى الحفظ، وقامت حركة الجيش في 23 يوليو 1952 وأعيد التحقيقُ للمرة الرابعة لفضح مجازر العهود السابقة وقامت الشرطة بجمع المعلومات عن القضية وأحيل التحقيق إلى أمن الدولة وقُدِّم عددٌ من المتهمين وصدر الحكم بإدانة أربعة في أغسطس 1954.
لقد تحالفت القوى العالمية مع الملك، والحكومة وتآمروا جميعًا على قتل الإمام الشهيد حسن البنا وطمْسِ معالم الجريمة حتى يفلت الجناة ولا يفضحوهم، وبقي الجناة مطلَقي الصراح حتى أُعيد التحقيق للمرة الرابعة بعد انقلاب 23 يوليو، وقامت الشرطة العسكرية بجمع المعلومات، وألقي القبض على من نفَّذوا الجريمة وقُدموا للمحاكمة.
محاولات وخطط الاغتيال
هناك عدة محاولات تمَّت لاغتيال الإمام الشهيد حسن البنا قبل المحاولة الأخيرة، والتي نجح فيها الشر،ّ وأعوانه من تحقيق الهدف، حدثت هذه المحاولات قبل قتل النقراشي، وكانت المحاولة الأولى من خلال خنجر مسموم أصاب قلب القضية المصرية في الصميم، لذلك فكَّر المرشد العام في تنظيم مظاهرة سلمية لشدِّ أزر النقراشي في موقفه أمام مجلس الأمن، وطلب من الجهات المختصة بوزارة الداخلية أن تسمح له بتسيير المظاهرة على أن يكون هو المسئول عما ينجم عنها من أضرار، وبعد السير فوجئ الإخوان بتدخل بوليس السواري ينهال على الإخوان بالضرب.
ركب المرشد سيارة ليذهب إلى الجهات المسئولة في وزارة الداخلية ليقدم احتجاجًا على ما يحدث، وفي الطريق فوجئ بقوة البوليس في العتبة تتصدَّى للسيارة وتأمر المرشد بالنزول، وما كاد ينزل حتى انهال الرصاص على موكبه وذهب الإخوة إلى قسم الموسكي ليبلغوا عن الحادث حتى وجدوا ضابطًا يصوِّب مسدسًا نحوهم.
المؤامرة الأخرى حدثت في مبنى الإخوان في شارع محمد علي؛ حيث تحدَّد يومٌ لسفر الإخوان في جبهة للقتال في فلسطين، وألقى المرشد فيها كلمةَ وداع بمقر الشركة العربية للمناجم، والمحاجر، وشاء الله أن يتأخر المرشد وحدث انفجارٌ بإحدى الغرف التي سوف يتحدث فيها المرشد، وبعد حادث المظاهرة أراد ضابطٌ من البوليس أن يتحدث إلى المرشد، ولما انفرد به أخرج مسدسًا وضعه أمامه على المنضدة، وقال: “إليك هذا المسدس هدية مني، فقد كنت مكلَّفًا بالقضاء عليك وتبعتك إلى كثير من الأماكن التي كنت تتردد عليها لإفرغ الرصاص في جسدك؛ لكن مبادئك التي تدعو إليها قد أثَّرت في نفسي وجعلتني أتنحَّى عن العمل الإجرامي.
المحاولة التالية وهي آخر المحاولات الفاشلة للقضاء على الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله دبَّرها رجل معروف بصِلاَته بالقَصْر، استدعى الإمام ليتشاور معه في أمورٍ وصفَها بأنها مهمة وأتى الخادم بفنجان من القهوة، ولكن الإمام شعر بهاتف داخلي برفض المشروب، فاعتذر بحجه أنه صائم.
المحاولة الخامسة والأخيرة والتي نجحت في اغتيال مؤسس جماعة الإخوان؛ حيث بدأ الأميرالاي محمود عبد المجيد مدير المباحث الجنائية في تنفيذ الاغتيال بتجهيز عصبة من الرجال الذين يثق فيهم المرشد ممن عملوا معه فسعى إلى ندب الضابطَين حسين كامل وعبده أرمانيوس للعمل معه بالوزارة، واستقدم الأمباشي أحمد حسين جاد بإشارة تضمنت أمرًا صادرًا من وكيل الداخلية عبد الرحمن عمارة لمديرية جرجا بنقله نقلاً مؤقتًا للوزارة، ثم أخذ آخر عن طريق اتصال شخصي تليفونيًّا بجرجا، ثم ندب الجاويش محمد سعيد إسماعيل والأمباشي محمد حسين محمدين للعمل بالوزارة وتم النقل.
وبدأت الحكومة تنفيذ الجريمة من خلال حملة اعتقالات واسعة قبضت فيها على الإخوان، فتم اعتقال أعضاء مكتب الإرشاد ومعظم أنصار الإمام البنا، واعتقال عبد الباسط البنا قبل استشهاد الإمام بشهر كامل، وضاق الإمام حتى طلب من الحكومة اعتقالَه مع إخوانه فرفضت الحكومة وتركته وحده ليلقى مصيره.
كان الإمام حسن البنا يحمل ترخيصًا بحمل مسدس، فسحبْتُه منه الحكومة وحَرَمتْه من وسيلة الدفاع عن نفسه، ظل الإمام يحمل هذا المسدس حتى يوم 13من يناير 1949 أي قبل شهر من الحادث، كما اعتاد المرشد استخدام سيارة خاصة بالإخوان في الوقت الذي صدر فيه قرارٌ بحلِّ الجماعة وتجميد أموالها، كما أن بمنزل الإمام الشهيد أحد الخطوط التليفونية بالمركز العام لجماعة الإخوان بالحلمية الجديدة، فلما قررت الاغتيال منعت اتصاله بالخارج هو وأهل منزله، ولم تكتف الحكومة بذلك بل وضعتْه تحت المراقبة من خلال البوليس السري.
وكان الإمام الشهيد يتألم من هذا الجوِّ في آخر أيامه، فأرسل إلى محافظ القاهرة يستأذنه في السفر وكان جوابه إهمال طلب الإمام وعدم الرد عليه لا سلبًا ولا إيجابًا!!
ثلاث خطط بديلة
كانت هناك ثلاث خطط لاغتيال المرشد العام للإخوان المسلمين بجانب التي نُفذت:
الخطة الأولى:
وهي أن يحفروا له حفرةً في الهرم في طريق الفيوم ثم يستدعوه بالليل؛ على اعتبار أن النيابة أمرت باعتقاله ويكتشفوا الجريمة، فرفض اللواء أحمد طلعت حرب، وكيل حكمدار القاهرة وقتئذ هذه الخطة.
أما الخطه الثانية:
فهي أن يقف أحمد حسين (المتهم الأول) أمام منزل الإمام فرآه خفيره الخصوصي فأخذه إلى قسم الدرب الأحمر فأطلع أحمد حسين المأمور على بطاقته فأخلى سبيله بعد أن أفهموا الخفير أنه “تاجر مواشي”.
أما الخطه الثالثة:
فكانت يوم خروج السفير مع مصطفى مرعى وكان أحمد حسين سيعتدي عليه وكان الأميرالاي في شارع الملكة نازلي أمام شركة كايرو موتور فأمر حسين أحمد كامل بالامتناع عن الضرب وأراد الجناة أن يكون يوم ميلاد الملك هو موعد اغتيال الإمام حسن البنا ليكون هدية عيد ميلاد الملك الطاغية.
تنفيذ الجريمة
أُحكمت الخطة وسُدَّت كل المنافذ أمام الشهيد حسن البنا وهُيِّئ مسرح الجريمة وأصبح الشهيد يقف وحيدًا، فأنصاره وإخوانه في السجن وسحبوا منه المسدس المرخَّص، وقطعوا عنه الاتصال التليفوني في منزله، وصادروا عربة صهره، وآخر ما فعلوه قبضوا على أخيه اليوزباشي بالبوليس عبد الباسط البنا الذي كان يلازمه كحارس.
أحسَّ البنا بالجوِّ المريب الذي يحيط به وشبح الموت يحدق أمام عينيه، ولكنَّ الحكومة المنفِّذة لهذه الجريمة أبقَت على ولع المفاوضات بينها وبينه، وقام مصطفى مرعى إمعانًا في إيهام الإمام حسن البنا وإبقاء الأمل بين الإخوان والحكومة، بل أكثر من ذلك وافقت الحكومة على زيارة حسن البنا لإخوانه المعتَقلين وحدَّدت له موعدًا بعد اغتياله بأيام.
تقرير الطبيب الشرعي
أثبت الطبيب الشرعي أنه شاهد بجثة المرحوم حسن البنا سبعة جروح نتيجة سبع قذائف نارية وبتشريح الجثة وُجد نزيف بعضلات الصدر في الجهة اليمني ونزيف خفيف بتجويف الصدر ونزيف بالكتف الأيمن وتمزق بأوردة الإبط ونزيف بعضلات الفخذ الأيسر وكسر بعضدي الساعد الأيمن ونزيف بالأنسجة، ولُخِّص سبب الوفاة في أنه نتيجة النزيف الناشئ عن تمزق أوعية الإبط وإصابته بأربعة أعيرة نارية أطلقت عليه من حوالي مسافة نصف متر. ويقول دكتور يوسف رشاد إن إصابة الإمام حسن البنا لم تكن جسيمةً، وكان يمكن إنقاذ حياته إذا خُيِّطت جراح الإبط ولكنَّ ذلك لم يحدث، فكثُر النزيف مما أدى إلى الوفاة.
منعت الحكومة الاحتفال بتشييع جنازة الإمام حسن البنا ومنع اشتراك أحد فيها فلم يشيِّعْها إلا أبوه وأخواته وخرجوا بنعشه في صمت في الصباح المبكر، وحرَّمت الحكومة العزاء فيه فلم يتقدم أحد لعزاء فيه إلا مكرم عبيد، القطب القبطي الوطني الكبير.
ظلت الوفاة ضد مجهول طول بقاء الملك فاروق في الحكم وبعد ثورة يوليو تم فتح التحقيق من جديد وفتحت الشرطة العسكرية الملف، وألقي القبض على الجناة، وأَدخلوهم السجن الحربي، واعترف مَن اعترف، وأنكر مَن أنكر، وصدر الحكم على الجناة، وحُكم بمعاقبة أحمد حسين جاد بالأشغال الشاقَّة المؤبَّدة وكل من الباش جاويش محمد محفوظ سائق السيارة، والأميرالاي عبد المجيد بالأشغال الشاقة لمدة خمس عشرة سنة ومعاقبة محمد الجزار بالحبس مع الشغل لمدة سنة وبراءة الآخرين.
صدر الحكم في 2من أغسطس 1954م، أي بعد حادث الاغتيال بخمس سنوات، إلا أن رئيس الجمهورية الأسبق جمال عبد الناصر أفرج عن الجناة نكايةً في جماعة الإخوان المسلمين حينما اصطدم بهم؛ ليظل دم الشهيد حسن البنا لعنةً تصيب كلَّ من شارك في اغتياله إلى يوم الدين.
تفسير
لم تكن الإصابة خطرة، بل بقي الإمام البنا بعدها متماسك القوى ؛ كامل الوعي، وقد أبلغ كل من شهدوا الحادث رقم السيارة، ثم نقل إلى مستشفى قصر العيني فخلع ملابسه بنفسه. وقد شهد بذلك محمد الليثي الذي كان في غرفة العمليات حين وصول حسن البنا، كما شهد أن الطبيب أجاب البكباشي محمد وصفي، أحد زبانية فاروق، حين سأله عن المصاب : إن إصابته ليست خطرة.
فهذا كله يرجح بأن الإمام البنا لم يُقتَل برصاص المغتالين، بل بأحد أمرين:
الأول: أنه تُرك ينزف حتى أُجهز عليه، ومُنع الطبيب من إسعافه.
الثاني: أن محمد وصفي ارتكب جريمة القتل داخل غرفة العمليات. فقد أثبتت أقوال الشهود في التحقيقات أن محمد وصفي فرض نفسه في غرفة العمليات بوصفه ممثلاً لوكيل الحاكمدار أحمد طلعت، وأخرج كل من كان في الغرفة، ولم يبق بجانبه إلا الطبيب المغلوب على أمره. وقد ورد على لسان الأمين الخاص للقصر الملكي: إن الملك أرسل محمد وصفي للإجهاز على حسن البنا إن كان لا يزالُ حيَّا!
لفظ البنا - رحمه الله - أنفاسه الأخيرة في الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف ليل يوم 14 ربيع الثاني 1368 هجرية، 12 فبراير 1949 ميلادية، أي بعد أربع ساعات ونصف من بدء محاولة الاغتيال، ولم يعلم والده وأهله بالحادث إلا بعد ساعتين أخريين.
وأرادت الحكومة أن تظل الجثة في المستشفى حتى تخرج إلى الدفن مباشرة، ولكن ثورة والد الشهيد جعلتها تتنازل فتسمح بحمل الجثة إلى البيت، مشترطة أن يتم الدفن في الساعة التاسعة صباحاً، وألا يقام عزاء!.
واعتقلت السلطة كل رجل حاول الاقتراب من بيت البنا قبل الدفن فخرجت الجنازة تحملها النساء، إذ لم يكن هناك رجل غير والده الذي رفض أن يحملها، وقال لرجال الجيش والشرطة : أنتم قتلتموه فاحملوا حثته على أعين الناس!
ومن الغرائب، والغرائب كثيرة أن يكون حماة الأمن هم أنفسهم قطاع الطرق، وجناة، وقتلة...
استشهاد الإمام البنا:
يوم تيتمت فيه مصر
إنه مساء السبت 12 من فبراير سنة 1949 في لحظات منه أطلقت اليد الكالحة السوداء رصاصاتِ الغدر لتخترق الجسد النحيل، وتدفق الدم من القلب الطاهر الذي كان ينبض بذكر الله وروح الإيمان بالله!! اللون لون دم، والريح ريح مسك، ولم تسقط نقطة واحدة من هذا الدم علي الأرض ، بل استقبلتها وتشربتها ملايين الأوردة والشرايين التي امتدت في جسوم تلاميذه ومريديه، فعاشوا تنبض قلوبهم بدمه، ومضوا تحت راية ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)﴾ (الفاتحة) يمخرون بها عباب الآلام والمحن بصبر أيوبي لا ينفد، وعزم بدري لا يهون، أما الإمام الشهيد.. فرفعته مشيئة الله إلى الروح والريحان وجنة النعيم.
ومن كرامات هذه الشهادة أنها كانت السبب القوي الذي وجَّه سيد قطب نفسيًّا وفكريًّا إلى الإخوان المسلمين، وذلك أنه كان آنذاك في الولايات المتحدة مبعوثًا من وزارة المعارف المصرية، ورأى “سيد” مظاهر الفرح والابتهاج في المحافل، وعلى صفحات الصحف لمقتل حسن البنا عدو الغرب كما وصفوه، واقتنع بفكر الجماعة، وانضم إليها بعد عودته من أمريكا ليكون علمًا من أكبر أعلامها، ويقدِّم روحه فداءً لعقيدته بعد أن ترك وراءه عشرات من الكتب التي انتصرت للإسلام والفكر الإنساني الحصيف.
كان لا بد أن يموت هذا الرجل الذي صنع التاريخ وحوَّل مجرى الطريق شهيدًا كما مات عمر وعلي والحسين، كان لا بد أن يموت باكرًا، فقد كان غريبًا عن طبيعة المجتمع، يبدو كأنه الكلمة التي سبقت وقتها، أو لم يأت وقتها بعد.
منظومات الكذب والافتراء
واستطاع الإمام البنا علي مدى عشرين عامًا أن يصنع - بفضل الله وكرمه وتوفيقه- كبرى الجماعات الإسلامية في القرن العشرين، وترجم الشعارات التي نادى بها أعمالاً وسلوكياتٍ وأخلاقياتٍ، وعاش كالجبل الأشم الشامخ الذي تحطمت على صخوره كل الأكاذيب، والادعاءات والأحقاد والمؤامرات، قال المفترون: لقد انحرف بالدين إلي السياسة، وقالوا كوَّن جهازًا سريًّا هدفه قتل الأبرياء والاستيلاء على الحكم، وقالوا: متعصب وديكتاتور، وقالوا: بدأ دعوته في الإسماعيلية بإيعازٍ من الإنجليز، وقالوا وقالوا، وقال التاريخ والحق ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا (5)﴾ (الكهف).
ولعل الطريف المضحك في منظومة الافتراءات أن يخوض هذا المخاض - بكتب ومؤلفات- رجال مباحث وأمن دولة يعجز الواحد منهم أن يكتب جملةً واحدةًُ من سطر واحد بلغة عربية سليمةٍ، ومن قبيل التفكُّه قرأت كتابًا ضخمًا طُبع طباعةً فاخرةً، ويبيعه مؤلفه بخمسة وثلاثين جنيهًا والمؤلف هو (اللواء فؤاد علام) الذي كان المسئولَ الكبيرَ في أمن الدولة.
ومن حق القارئ أن يضحك وهو يقرأ في هذا الكتاب مثل هذه العبارات: “كان حسن البنا يهوى الزعامة والسلطة، ويسعى إليهما مهما كان الثمن، وعشق العمل السري، واتَّخذ منه أسلوبًا لتحقيق أهدافه، وكان حلمه الذي لم يتحقق هو أن يصبح خليفةً للمسلمين”، ويزعم أن أحمد السكري هو المؤسس الحقيقي لجماعة الإخوان.. وحسن البنا سرقها منه.
ويقول بالحرف الواحد: “الإخوان وحرب فلسطين من الأكاذيب الكبرى التي اخترعها حسن البنا والذين معه، نسجوا قصص بطولاتٍ تتحدث عن تضحياتهم وشهدائهم ودمائهم التي أُرِيقت على تلك الأرض المقدسة، ولكن الحقيقة غير ذلك تمامًا.. لم يقدموا شهيدًا، ولم يطلقوا رصاصةً، ولم يريقوا قطرةَ دماءٍ واحدة”.
ولست أدري ماذا يقول “علام” في شهادة قادة الجيش المصري في فلسطين مثل أحمد المواوي، وفؤاد صادق والسيد طه (الضبع الأسود)، بل شهادات الصهاينة أنفسهم من أمثال موشي ديان؟ وماذا يقول في وثائق وزارة الحربيةالمصرية؟؟!
ومن السهل على القارئ أن يكتشف أن كل هذه الادعاءات تفتقر إلى الحدِّ الأدنى من أخلاقيات النقد والتقييم وأدب الحوار.
هذا وما زالت منظومة الأكاذيب وسوء الظن وسوء التفسير للمواقف.. تتفاقم وتتضخم.. في كتب ومقالات وبرامج تلفازية.
ولا يبقى إلا الصحيح ودولة الظلم ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.