وضوح الطريق
حين تقدم الطالب حسن البنا إلي لجنة الامتحان الشفهي في مدرسة دار العلوم سأله أحد الممتحنين: ماذا تحفظ من الشعر القديم؟
فأجاب: أحفظ المعلقات السبع.
قال الأستاذ الممتحن: أسمعني معلقة طرفة بن العبد، فأخذ حسن البنا يقرأها في فصاحة وثبات، ولما تأكد الأستاذ الممتحن من جودة حفظه، قال له: علي رسلك، أريدك أن تختار بيتا أعجبك من هذه القصيدة، فأطرق حسن البنا هنيهة، ثم قال: إذا القوم قالوا من الفتي خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد .. فما كان من الأستاذ الممتحن إلا أن رفع عمامته من فوق رأسه وهو يردد الله .. الله .. فالتفت إليه الممتحن الآخر وقال له: ماذا جري يا مولانا؟ فأجابه، بأن هذا الفتي - يقصد حسن البنا - سيكون له شأن عظيم، وأعاد علي سمعه بيت الشعر الذي أعجب البنا من القصيدة، فشاركه إعجابه وتفاؤله .. وما هي إلا سنوات قلائل حتي صدقت فراسة هذا الشيخ في حسن البنا إذ أصبح بالفعل أمل أمته الحيري، ومرشدها وداعيتها إلي الإسلام.
عرف حسن البنا منذ صباه أن الجهل بالإسلام، وعدم إدراك حقيقة هذا الدين، وتلوث المحيط الاجتماعي فكريا وأخلاقيا هو الذي انتهي بأمته إلي الضياع والشرود، الأمر الذي يعود إلي ضعف التوجيه الديني السليم في حياة المسلمين، وإلي خضوعهم إلي توجيهات منحرفة ومتناقضة مع تعإليم الإسلام ومبادئه.
لقد كان حسن البنا هو ذلك الفتي الذي أحس منذ صباه بالفراغ الذي يعاني منه المسلمون، وهو عدم وجود قيادة مسلمة، وطليعة مؤمنة ترد المسلمين إلي الإسلام وتبصرهم بالطريق وتكتل جهودهم لاستئناف دورهم الحضاري كخير أمة أخرجت للناس.
لقد أدرك حسن البنا تطلع قومه إليه لاستخلاصهم واستنقاذهم من الضياع فكان هو ذلك القائد والمرشد الذي توفرت له كل ملامح القيادة والإرشاد من وعي وإدراك وإحساس عميق بثقل التبعة وعظم المسئولية، سجل الكثير منه في مذكراته، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
أنظر إليه وهو ينذر نفسه لتوجيه أمته وإرشادها في موضوع الإنشاء في امتحان التخرج من دار العلوم ... يقول رحمه الله:
كان أستاذنا أحمد يوسف نجاتي جزاه الله خيرا مغرما بالموضوعات الدسمة بالإنشاء، وله معنا نكات ظريفة طريفة في هذه المعاني. ومن كلماته المأثورة، حين كان يمل من تصحيح هذه المطولات، أن يقول والكراسات علي يده ينوء بحملها كما ناء طول الليل بتصحيحها: "خذوا يا مشايخ! وزعوا ما تزعمونه إنشاء. عليكم بالقصد يا قوم، فالبلاغة الإيجاز. والله إني لا أشبر الإنشاء ولا أذرعه" .. ونضحك ونوزع الكراسات.
ومن الموضوعات التي أتحفنا بها بمناسبة آخر العام الدراسي، وكان بالنسبة لي ولفرقتي الامتحان النهائي 1927 ميلادية، هذا الموضوع: "إشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك، وبين الوسائل التي تعدها لتحقيقها" ..
وقد أجبت عنه بهذا الموضوع:
"أعتقد أن خير النفوس تلك النفس الطيبة التي تري سعادتها في سعادة الناس وإرشادهم، وتستمد سرورها من إدخال السرور عليهم، وذود المكروه عنهم، وتعد التضحية في سبيل الإصلاح العام ربحا وغنيمة، والجهاد في الحق والهداية علي توعر طريقهما، وما فيه من مصاعب ومتاعب راحة ولذة وتنفذ إلي أعماق القلوب فتشعر بأدوائها، وتتغلغل في مظاهر المجتمع، فتتعرف إلي ما يعكر علي الناس صفاء عيشهم ومسرة حياتهم، وما يزيد في هذا الصفاء، ويضاعف تلك المسرة، لا يحدوها إلي ذلك إلا شعور بالرحمة لبني الإنسان، وعطف عليهم، ورغبة شريفة في خيرهم، فتحاول أن تبرئ هذه القلوب المريضة، وتشرح تلك الصدور الحرجة، وتسر هاته النفوس المنقبضة لا تحسب ساعة أسعد من تلك التي تنقذ فيه مخلوقا من الشقاء البدني أو المادي، وترشده إلي طريق الاستقامة والسعادة ..
وأعتقد أن العمل الذي لا يعدو نفعه صاحبه، ولا تتجاوز فائدته عامله، قاصر ضئيل، وخير الأعمال وأجلها ذلك الذي يتمتع بنتائجه العامل وغيره، من أسرته وأمته وبني جنسه، وبقدر شمول هذا النفع يكون جلاله وخطره، وعلي هذه العقيدة سلكت سبيل المتعلمين، لأني أراهم نورا ساطعا يستنير به الجمع الكثير ويجري في هذا الجم الغفير، وإن كان نور الشمعة التي تضئ للناس باحتراقها ..
وأعتقد أن أجل غاية يجب أن يرمي الإنسان إليها، وأعظم ربح يربحه أن يحوز رضا الله عنه، فيدخله حظيرة قدسه، ويخلع عليه جلابيب أنسه، ويزحزحه عن جحيم عذابه، وعذاب غضبه. والذي يقصد إلي هذه الغاية يعترضه مفرق طريقين، لكل خواصه ومميزاته، يسلك أيهما شاء:
أولهما: طريق التصوف الصادق، الذي يتلخص في الإخلاص والعمل، وصرف القلب عن الاشتغال بالخلق خيرهم وشرهم. وهو أقرب وأسلم.
الثاني: طريق التعليم والإرشاد، الذي يجامع الأول في الإخلاص والعمل، ويفارقه في الاختلاط بالناس، ودرس أحوالهم، وغشيان مجامعهم ووصف العلاج الناجع لعللهم، وهذا أشرف عند الله وأعظم، ندب إليه القرآن العظيم، ونادي بفضله الرسول الكريم.
وقد رجح الثاني بعد أن نهجت الأول لتعدد نفعه وعظيم فضله، ولأنه أوجب الطريقين علي المتعلم، وأجملهما لمن فقه شيئا ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.
وأعتقد أن قومي بحكم الأدوار السياسية التي اجتازوها، والمؤثرات الإجتماعية التي مرت بهم، وبتأثير المدنية الغربية، والشبه الأوروبية، والفلسفة المادية، والتقليد الأفرنجي بعدوا عن مقاصد دينهم، ومرامي كتابهم ونسوا مجد آبائهم، وآثار أسلافهم، والتبس عليهم هذا الدين الصحيح بما نسب إليه ظلما وجهلا، وسترت عنهم حقيقته الناصعة البيضاء، وتعإليمه الحقيقية السمحة، بحجب من الأوهام يحسر دونها البصر، وتقف أمامها الفكر، فوقع العوام في ظلمة الجهالة، وتاه الشباب والمتعلمون في بيداء حيرة وشك، أورثا العقيدة فسادا وبدل الإيمان إلحادا..!
وأعتقد كذلك أن النفس الإنسانية محبة بطبعها، وأنه لا بد من جهة تصرف إليها عاطفة حبها، فلم أر أحدا أولي بعاطفة حبي من صديق امتزجت روحه بروحي، فأوليته محبتي، وآثرته بصداقتي.
كل ذلك أعتقده عقيدة تأصلت في نفسي جذوتها، وطالت فروعها، وإخضرت أوراقها، وما بقي إلا أن تثمر، فكان أعظم آمإلي بعد إتمام حياتي الدراسية أملان:
خاص: وهو إسعاد أسرتي وقرابتي، والوفاء لذلك الصديق المحبوب، ما استطعت إلي ذلك سبيلا، وإلي أكبر حد تسمح به حالتي، ويقدرني الله عليه.
عام: وهو أن أكون مرشدا معلما، إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار، ومعظم العام، قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم، ومنابع سعادتهم، ومسرات حياتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخري بالتإليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة.
وقد أعددت لتحقيق الأول معرفة بالجميل، وتقديرا للإحسان وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
ولتحقيق الثاني من الوسائل الخلقية: "الثبات والتضحية" وهما ألزم للمصلح من ظله، وسر نجاحه كله، وما تخلق بهما مصلح فأخفق إخفاقا يزري به أو يشينه، ومن الوسائل العملية: درسا طويلا ، سأحاول أن تشهد لي به الأوراق الرسمية، وتعرفا بالذين يعتنقون هذا المبدأ، ويعطفون علي أهله، وجسما تعود الخشونه علي ضآلته، وألف المشقة علي نحافته، ونفسا بعتها لله صفقة رابحة، وتجارة بمشيئته منجية، راجيا منه قبولها، سائله إتمامها، ولكليهما عرفانا بالواجب وعونا من الله سبحانه وتعالي، أقرأه في قوله: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) ذلك عهد بيني وبين ربي، أسجله علي نفسي، وأشهد عليه أستاذي، في وحدة لا يؤثر فيها إلا الضمير، وليل لا يطلع عليه إلا اللطيف الخبير ومن أوفي بما عاهد عليه الله، فسيؤتيه أجرا عظيما".
هكذا كان حسن البنا يعرف ما يريد، ويعرف سبيله إلي ما يريد.
وذلك أنه من أخطر ما يؤثر في بناء شخصية الداعية هو وضوح طريقه، وشعوره بالثقة المطلقة بفكرته التي يدعو إليها بشكل يستطيع معه دخول معترك الصراع العقائدي الإنساني، وهو يحمل مبادئ واضحة محددة، يسهل عليه مقارنتها بغيرها من العقائد والمناهج في سرعة ويسر، ويتبين له من خلال تلك المقارنة الفرق الواضح بين فكرته وبين غيرها من الأفكار والمناهج، ويسهل عليه هذا الوضوح إيصال فكرته إلي عقل وقلب كل إنسان شريف، فيقنعه بأنها هي الخير المحض، والعلم الخالص، والحاجة الملحة.
بهذا التكوين الرباني تمكن حسن البنا وبخطوات الواثق المطمئن من تقديم إسلامه إلي مجتمعه المتخلف والإنسانية المعذبة، كحل جذري لما تعانيه من ضنك وآلام وعذاب .. أنظر إليه وهو يجيب عن سؤال وجهه إليه صحفي يطلب منه أن يوضح بنفسه عن شخصيته للناس،
فقال رحمه الله "أنا سائح يطلب الحقيقة، وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس، ومواطن ينشد لوطنه الكرامة والحرية والإستقرار والحياة الطيبة في ظل الإسلام الحنيف ... أنا متجرد أدرك سر وجوده، فنادي: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين .. هذا أنا فمن أنت!؟".
حسن البنا .. ومراحل دعوته
عدنا بعد حفل الشاي الذي أقامه الإخوان لرجال الفكر والجامعة بالإسكندرية في نادي حديقة (أنطونيادس)، إلي دار شعبة الإخوان بمحرم بك وكانت فئة المستمعين هنا تختلف عن فئة المستمعين هناك في حفل الشاي، فاختلف أسلوب الدعوة والداعية ..
في هذه المرة أخذ فضيلة المرشد يشرح دعوته ومراحلها مستعملا أسلوب التشبيه وضرب الأمثال، هذا الأسلوب الذي يجئ في القرآن الكريم لزيادة الإيضاح والبيان ..
ذكر فضيلته، أن وزيرا حدثه فقال: أنت يا فضيلة المرشد مثلك في هذه الدعوة كرجل ورث مع أهله قصرا فخما كبيرا مضي عليه أكثر من ألف عام، وهذا القصر بدأ يتهدم وأصبح آيلا للسقوط .. فرأيت أن تجمع ورثة هذا القصر جميعا وتشاورهم في أمر إعادة هذا القصر إلي بهائه وروعته، وإدراكه بالإصلاح والترميم قبل أن يسقط ... ولكن الجميع رفضوا ذلك، بعضهم إحتج بأن القصر لا فائدة من محاولات إنقاذه فقد استهلك وأدي دوره وانتهي زمانه، وأن إصلاحه عبث لا طائل من ورائه، وبعضهم إعتذر بشيخوخته وكبر سنه وضعف وخور قواه ووهن عزيمته حتي أنه لم يعد له أمل في الحياة، وبعضهم رأي أن هذا العمل يحتاج إلي إمكانيات مالية فتعلل بضيق ذات يده .. وهكذا تخلي الجميع عن مسئولياتهم نحو قصرهم وإعادة مجده.
ومضي فضيلته في سرد القصة ..
وحدث الرجل نفسه: لقد كنت مقدرا لو تعاون معي الورثة تعاونا وثيقا، فإنه بالإمكان أن نختصر الوقت في إصلاح القصر حتي يتم ذلك فيما لا يزيد عن عشرين عاما، فلما رفض الورثة التعاون معي رأيت أن لا أتخلي عن واجب الوفاء لإنقاذ قصرنا التليد وإعادته إلي شموخه، وقلت في نفسي المهم هو الوصول إلي الإصلاح طال الزمن أم قصر، وتوكلت علي الله ومضيت في العمل مستعينا بحوله وقوته، وأحطت القصر بسور عال كما يفعل في تجديد العمارات الآيلة للسقوط في المدن الكبيرة، وحجبت القصر عن الأعين تماما .. وأخذت أجوب الكفور والقري والمدن، مدينة مدينة وقرية قرية وكفرا كفرا، أثير الهمم وأشحذ العزائم وأبني لبنة لبنة، حتي إذا اكتمل القصر واطمأننت إلي قوة بنيانه وأزحت عنه الحجب ورفعت عنه السور الذي أخفاه عن الأعين .. وفوجئ الناس بالقصر شامخا قويا جديدا، ودهشوا متي وكيف تم ذلك؟! ثم أشاعوا من أين المال، ومن أين الرجال؟! ..
شبه الإمام الشهيد الدعوة يوم قيامه بها بقصر متداع إنصرف عنه ورثته وتخلوا عن عبء القيام بإصلاحه وإعادة مجده، فحمل وحده مسئولية إقامة القصر من جديد ..
وأشار فضيلته إلي مراحل دعوته التي بدأها باتصالات ومحاولات لحفز همم رجالات الأمة وهيئاتها للعمل علي إعادة كيان الأمة الإسلامية واستئناف دورها الحضاري، ولكن كانت نتيجة هذه الجهود هي التعللات والمعاذير التي وردت في القصة، ويمكن الرجوع إلي حقيقة هذه الإتصالات في الفترة التي قضاها بالقاهرة طالبا بكلية دار العلوم والتي كتب عنها في كتابه "مذكرات الدعوة والداعية".
لقد نشأت دعوة الإخوان المسلمون في نهاية العشرينيات وتبلورت أهدافها أول ما تبلورت في نفس الإمام حسن البنا، وقد أجمع الذين عاصروه والذين كتبوا عنه من معارضيه ومؤيديه، أنه كان داعيا متمكنا من دعوته، فاهما لمضمونها الاجتماعي والحركي، مدركا لما يحيط بها وما ستواجهه من أخطار، وما يجب عليه أن يحققه من أهداف.
وإيمان الداعية بدعوته وتمكنه منها أول بوادر النجاح والنصر لها، لهذا حرص الإمام البنا من أول يوم في دعوته، أن يحدد الأسس العقائدية والحركية لها تحديدا واضحا، لا لبس فيه ولا غموض، ولكن التكتيك الحركي إقتضاه أن لا يكشف عن مراحل دعوته، ومعالم طريقها ووسائلها جملة واحدة، فيلفت إليه أنظار الأعداء المتربصين بها فيضربونها قبل أن تشتد عودها ويكثر أتباعها، ولهذا كانت خطط الدعوة واضحة بالنسبة للإمام البنا وضوح الشمس في رابعة النهار، كما كانت مراحلها محددة ومتكاملة في نفسه، إلا أنه لم يكن يفصح عنها إلا لخاصة الإخوان بين الفينة والأخري، أما بقية الناس فكانوا لا يعرفون عن أهداف الدعوة ووسائلها إلا الأهداف والوسائل المرحلية الآنية التي كان يعلنها في أحاديثه وخطبه للناس كافة.
إتجه الإمام البنا إلي عامة الناس، فاتصل بهم عن طريق المساجد والندوات والمقاهي علي طول القطر من إسوان إلي الإسكندرية في خلال عشر سنوات طوال، لم يدع مدينة أو قرية إلا ونزل بها واتصل بأهلها مبلغا دعوته، عاملا علي بناء الجماعة قوية شامخة.
وهذه هي المرحلة الأولي التي أوفت علي غايتها ثم جاءت بعدها مرحلة جديدة بعد عشر سنوات قضاها في بناء جيل من الشباب وإعداده بالتربية الصالحة والتنظيم النافع بعيدا عن الدعاية.
والحقيقة أن هذه الدعوة بقيت مجهولة للأعداء، إذ كانوا يعدونها واحدة من الطرق الصوفية أو جمعية دينية تقليدية من الجمعيات التي كانت منتشرة في مصر آنذاك، والتي لا يتعدي نشاطها الميدان الاجتماعي، حتي إستصدر الإخوان رخصة بمجلة (النذير) سياسية أسبوعية، التي صدر العدد الأول منها في مايو 1938م، وقد ظهر منها واضحا اتجاه الإخوان الوطني وإبتداء اشتراكهم في الكفاح السياسي في الداخل والخارج.
آفاق الطريق ومراحله
لقد كان حسن البنا منذ الصبا صادقا مع ربه، فكان بفضل الله تعالي عليه يعرف ما يريد، ويعرف سبيله إلي ما يريد .. وقد أجمل رحمه الله ما يريد في أكثر من مكان من رسائله، وكل ما ذكره فضيلته هو مما يفترض علي كل مسلم أن يعمل له بقدر إستطاعته، وهو ما لخصه في رسالة التعاليم في ركن "العمل" أحد أركان البيعة في دعوة الإخوان المسلمين.
يقول رضي الله عنه: "وأريد بالعمل: ثمرة العلم والإخلاص (وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلي عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)، ومراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق:
إصلاح نفسه: حتي يكون قوي الجسم، متين الخلق، مثقف الفكر، قادرا علي الكسب، سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهدا لنفسه، حريصا علي وقته، منظما في شئونه، نافعا لغيره، وذلك واجب كل أخ علي حدته.
وتكوين بيت مسلم: بأن يحمل أهله علي إحترام فكرته، والمحافظة علي آداب الإسلام في كل مظاهر الحياة المنزلية، وحسن إختيار الزوجة، وتوقيفها علي حقها وواجبها، وحسن تربية الأولاد والخدم وتنشئتهم علي مبادئ الإسلام، وذلك واجب كل أخ علي حدته كذلك.
وإرشاد المجتمع: بنشر دعوة الخير فيه، ومحاربة الرذائل والمنكرات، وتشجيع الفضائل، والأمر بالمعروف، والمبادرة إلي فعل الخيرات، وكسب الرأي العام إلي جانب الفكرة الإسلامية، وصبغ مظاهر الحياة العامة بها دائما، وذلك واجب كل أخ علي حدته، وواجب الجماعة كهيئة عاملة.
وتحرير الوطن: بتخليصه من كل سلطان أجنبي غير إسلامي سياسي أو اقتصادي أو روحي.
وإصلاح الحكومة: حتي تكون إسلامية بحق، وبذلك تؤدي مهمتها كخادم للأمة وأجير عندها وعامل علي مصلحتها، والحكومة إسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام غير متجاهرين بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه.
ولا بأس بأن تستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة، ولا عبرة بالشكل الذي تتخذه ولا بالنوع، ما دام موافقا للقواعد العامة في نظام الحكم الإسلامي.
ومن صفاتها: الشعور بالتبعة، والشفقة علي الرعية، والعدالة بين الناس، والعفة عن المال العام، والإقتصاد فيه.
ومن واجباتها: صيانة الأمن، وإنفاذ القانون، ونشر التعليم، وإعداد القوة، وحفظ الصحة، ورعاية المنافع الهامة، وتنمية الثروة وحراسة المال، وتقوية الأخلاق، ونشر الدعوة.
ومن حقها - متي أدت واجباتها -: الولاء والطاعة، والمساعدة بالنفس والمال .. فإذا قصرت: فالنصح والإرشاد، ثم الخلع والإبعاد، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية: بنشر دعوة الإسلام في ربوعه حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ويأبي الله إلا أن يتم نوره.
وهذه المراتب الأربعة الأخيرة تجب علي الجماعة متحدة وعلي كل أخ باعتباره عضوا في الجماعة.
وما أثقلها من تبعات، وما أعظمها مهمات، يراها الناس خيالا، ويراها الأخ المسلم حقيقة. ولن نيأس أبدا. ولنا في الله أعظم الأمل. والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الداعية حسن البنا .. غني بالدعوة
حين ضاقت دار المركز العام للإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة بالقاهرة بشتي ألوان النشاط .. فكر الإخوان في شراء دار أخري فسيحة تساعد علي استيعاب النشاط العام للجماعة. وفي أثناء ذلك لفتت أنظار الإخوان فيلا كبيرة تقابل دار المركز العام، يحيط بها فناء فسيح في نفس الميدان، فعرضوا أمر شرائها علي فضيلة المرشد، فأوفدهم ليتفاهموا مع أصحابها .. فوافق أصحاب الفيلا علي بيعها في حدود عشرة آلاف جنيه، ولم يكن في صندوق الإخوان سوي خمسمائة جنيه فقط، فكتب الأستاذ المرشد العقد الابتدائي بهذا المبلغ.
وأشفق مكتب الإرشاد أن لا يستطيع الإخوان سداد باقي الثمن فضلا عن تكاليف إصلاحها وتأثيثها، كما توجس المكتب خيفة من أن يتهم أعداء الإسلام بأن الاخوان المسلمين تأتيهم أموال من الخارج، ولابد أن نعرف كيف يكون التصرف من الآن في مبلغ لا يقل عن خمسة عشر ألف جنيه.
وطمأنهم فضيلة المرشد قائلا: إنني سوف أعلن في مجلة "الإخوان" عن شراء دار للجماعة وسوف ننشر الصورة الفوتوغرافية للدار مع الإعلان، وأطلب من الإخوان التبرع، وأتعشم أن يسددوا بقية الثمن في الشهر الأول أو الشهر الثاني أو الثالث .. سأترك للإخوان فرصة حتي آخر ديسمبر 1944م لتمويل المشروع، فإذا لم يستطع الإخوان الوفاء بالقيمة المطلوبة كلها قبل الموعد النهائي، فإني أحفظ من الإخوان أكثر من عشرين ألفا، وسوف أرسل لكل أخ منهم خطابا بالبريد أطالبه أن يساهم في شراء الدار بمبلغ جنيه واحد، وأعتقد أن ذلك هو أضعف الإيمان .. فسكت الإخوة أعضاء مكتب الإرشاد بعد هذا الإيضاح.
وللحق والتاريخ فقد كان الإخوان علي مستوي حسن الظن بإيمانهم ووفائهم، فلم يمض شهر واحد حتي توفر للإخوان المبلغ المطلوب ويزيد عن ذلك تلك الهبات العينية من عقود أراضي وأملاك أرسل بها الإخوان من كل مكان في العالم الإسلامي لتكون تحت تصرف الجماعة .. هذا وإني لأذكر بالفخر والإعجاب الأخوات المسلمات حيث تطوعن بالحلي الذهبية .. وقد أُتفق علي عدم التصرف في هذه التبرعات العينية ووضعوها في خزينة الجماعة ليراها زوارنا ولتكون دليلا علي المثل العليا التي انبعثت من نفوس المؤمنين بفضل عظمة هذه الدعوة ونبل أبنائها.
وفي حديث لمجلة (مسامرات الجيب) مع فضيلة المرشد، سأل مندوب المجلة فضيلته، فقال: هل أنت غني؟ وكان جوابه رضي الله عنه: نعم أنا غني بهذه القلوب المؤمنة التي تحابت معي في الله.
فقال مندوب المجلة: أقصد الناحية المادية ..
فقال فضيلته: نعم غني والحمد لله .. فكل أموال الإخوان التي في جيوبهم ملك للدعوة.
من أين المال؟
يتساءل هؤلاء الإخوان المحبوبون الذين يرمقون الإخوان المسلمين علي بعد ويرقبونهم عن كثب قائلين: من أين ينفقون؟ وأني لهم المال اللازم لدعوة نجحت وازدهرت كدعوتهم والوقت عصيب والنفوس شحيحة؟
وإني أجيب هؤلاء بأن الدعوات الدينية عمادها الإيمان قبل المال، والعقيدة قبل الأعراض الزائلة، وإذا وجد المؤمن الصحيح وجدت معه وسائل النجاح جميعا. وإن في مال الإخوان المسلمين القليل الذي يقتطعونه من نفقاتهم ويقتصدونه من ضرورياتهم ومطالب بيوتهم وأولادهم، ويجودون به طيبة نفوسهم سخية به قلوبهم، يود أحدهم لو كان له أضعاف أضعاف فينفقه في سبيل الله، فإذا لم يجد بعضهم شيئا تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون. في هذا المال القليل والإيمان الكبير ولله الحمد والعزة، بلاغ لقوم عابدين ونجاح للعاملين الصادقين ، وإن الله الذي بيده كل شيئ ليبارك في القرش الواحد من قروش الإخوان .. يمحق الله الربا ويربي الصدقات.
الإمام حسن البنا :إتباع لا ابتداع
مدرسة التهذيب
ثم تشاورنا في مكان الاجتماع وما نعمل فيه، واتفقنا أخيرا علي أن نستأجر حجرة متواضعة في شارع فاروق في مكتب الشيخ علي الشريف بمبلغ 60 قرشا في الشهر، نضع فيها أدواتنا الخاصة ونجتمع فيها إجتماعاتنا الخاصة، علي أن يكون لنا حق الانتفاع بأدوات المكتب بعد انصراف التلاميذ ابتداء من العصر إلي الليل، ويسمي هذا المكان "مدرسة التهذيب" للإخوان المسلمين، ويكون منهاجه دراسة إسلامية قوامها تصحيح تلاوة القرآن الكريم بحيث يتلوه الأخ المنتسب إلي هذه المدرسة وبالتالي إلي الدعوة وفق أحكام التجويد، ثم محاولة حفظ آيات وسور مع شرح هذه الآيات والسور وتفسيرها تفسيرا مناسبا، ثم حفظ بعض الأحاديث وشرحها كذلك، وتصحيح العقائد والعبادات وتعرف أسرار التشريع وآداب الإسلام العامة، ودراسة التاريخ الإسلامي وسيرة السلف الصالح والسيرة النبوية بصورة مبسطة تهدف إلي النواحي العملية والروحية، وتدريب القادرين علي الخطابة والدعوة تدريبا علميا بحفظ ما يستطاع من النظم والنثر ومادة الدعوة، وعمليا بتكليفهم التدريس والمحاضرة في هذا المحيط أولا، ثم في أوسع منه بعد ذلك.
حول هذا المنهاج تربت المجموعة الأولي من الإخوان المسلمين الذين بلغوا في نهاية العام الدراسي: "1927-1928" سبعين أو أكثر قليلا، ولم يكن هذا المنهاج التعليمي هو كل شيء.
فقد كانت معاني التربية العملية التي تتفاعل في أنفسهم بالمخالطة والتصرفات الواقعية والود والمحبة فيما بينهم، والتعاون الكامل في شئون حياتهم، وتهيؤ نفوسهم لما في ذلك من خير أقوي العوامل في تكوين هذه الجماعة.
إنتهي الاستطراد الذي تم نقله من كتاب "مذكرات الدعوة والداعية".
حسن البنا .. حرارة العاطفة ورقة الشعور
في العيد
بعد أن أدي الأستاذ المرشد صلاة العيد توجه إلي دار المركز العام القديم بالحلمية الجديدة، وتوافد الإخوان لتهنئة فضيلته بالعيد، وجلست في زاوية من الحجرة الفسيحة أرقبه .. فكان رحمه الله يستقبل كل أخ مسلما عليه بإسمه أو بكنيته بحرارة وابتسامة مشرقة، ثم يشير إليه ليجلس، ثم يتابعه بالسؤال عن صحته والاستفسار عن أحواله الشخصية التي كان يعرف الكثير منها حيث كان موضع ثقة الإخوان ومشورتهم. ودخل عليه أحد الإخوان فسلم عليه وهنأه بالعيد ثم قال له: لعل الأمر قد انتهي بخير والأخ الطبيب قد وفقه الله، فقال الأخ: ببركة دعواتكم يا فضيلة المرشد .. وكانت هذه الكلمات مدعاة ليسأل بعض الإخوة أخوهم هذا عن الموضوع وهي مشاركة أخوية واجبة تفرضها آداب الإسلام وأخلاقه، فتبسم قائلا: الموضوع أن فضيلة المرشد كان عندنا في البلد وكانت عندي جاموسة متعسرة في الولادة ، فلما علم بذلك نصحني بإحضار طبيب لإنقاذها.
دموع
كتب أحد الاخوان يصف رقة قلب الإمام وحساسيته الشديدة وعواطفه الجياشة، يقول: دخلت عليه فقابلني بالبشر والترحاب، وقال: ستسافر بمشيئة الله يوم الثلاثاء إلي السودان .. فقلت علي الفور: أمر مطاع يا فضيلة المرشد .. وأردت أن أنصرف، ثم التفت إليه فجأة وقلت: ولكن يا فضيلة الأستاذ؟!، قال رحمه الله: ولكن ماذا؟ قلت: إن لي مشاكل كثيرة وشكاوي وفيرة، أود أن أتحدث إليكم فيها بعضها عام وبعضها خاص، فقال: هون عليك، وكّل أمرك إلي الله .. قلت: ولكني أود أن تعرف .. فقال: إنني أعرف .. قلت: إذن أنا أسعد ما أكون، ما دمت تعرف .. ولكنه استبقني وأخذ يتحدث عن مشاكلي وشكاواي يتحدث هو بنفسه لنفسه .. عجبت كل العجب، لأنه أحاط بدقائق نفسي ودخائل حسي، بل إن هناك مسائل كانت في باطن الشعور، هو الذي ذكرني بها .. وما إن انتهي من حديثه، حتي قلت: والله يا فضيلة الأستاذ، إني سعيد كل السعادة ولا أشكو من شيء أبدا .. قلت ذلك وصوتي متهدج ودموعي منهمرة وأحاسيسي متدفقة، ثم هجمت عليه، وكان واقفا لا شيء علي رأسه .. هجمت عليه واحتضنته بين ذراعي في شدة وعنف وأخذت أقبل رأسه .. واستمر هذا الموقف فترة من الزمن، وهو صامت مستسلم، ولم أتركه إلا حيت دخل علينا الأخ الأستاذ سعد الوليلي، وإذا بالأستاذ يبكي لبكائي وعيناه مليئتان بالدموع.
وكثيرا ما كان هذا البطل القوي يبكي بدموع غزار، وإني لأذكر في ذلك اليوم أن استلم وهو بدار "الشهاب" برقية من والد أحد الشهداء في فلسطين ردا علي برقية من فضيلة الأستاذ له، وكانت برقية والد الشهيد برقية مؤثرة فيها تضحية وفدائية واستبسال .. بكي الأستاذ كثيرا، وبكي الحاضرون، وكانت لحظات من الحساسية المرهفة والشعور العميق!.
ومع قصة دموع هذا القائد العظيم يروي أحد الإخوان هذا المشهد، فيقول: عرضت علي فضيلة المرشد ذات يوم خطابا من أحد الإخوان، وكان بين عدة خطابات وأوراق قدمتها إليه، وغفلت لحظة أنظر إلي من بالغرفة، وإذا بي أري دمعات كبيرة تتساقط علي الخطاب .. ودهشت، ولقد كنت قرأت الخطاب قبل ذلك، ولكنه لم يثر في نفسي ما أثاره في نفس هذا الرجل.
كنت أعرف أن المرسل بعث بمبلغ أربعة جنيهات للجماعة، فماذا في هذا من عجب، في الوقت الذي كانت هناك مئات الجنيهات تتقاطر علينا..! ولكنه هو القائد قد أثاره ما لم يثرني ... كتب الأخ صاحب الرسالة يقول: إكتتب كثيرون في أسهم جريدة "الإخوان"، ثم تنازلوا عنها عندما ناديت فضيلتكم بأن يتنازلوا عنها .. ولما كنت راغبا في أن أشارك في هذه التضحية، ولم يكن لي شرف المساهمة لضيق ذات يدي، فقد أرسلت لكم نصف مرتبي الشهري وهو قيمة ثمن سهم أتنازل عنه.
وقال الإمام الشهيد معلقا: بمثل هؤلاء وبهذه النقود القليلة تنتصر الدعوة.
لا تميز
... جاءنا الأستاذ المرشد في زيارة بالإسكندرية في إحدي ليالي شهر رمضان المبارك، وكان معه وفد من إخوان السودان، وبعد أن حضروا مؤتمرا في حي باكوس، عاد الأستاذ إلي دار المكتب الإداري قبيل منتصف الليل، وأوصاني أن أوقظه قبيل الفجر لتناول السحور ولم ينم إلا بعد فترة طويلة قضاها في حجرته يصلي القيام.
وحضرت مجموعة من الإخوان لتصلي مع فضيلته الفجر وتتناول معه السحور، وأحضرت له طعاما فاخرا، فلما اجتمع الإخوان علي الطعام، قال لي: هل كل الإخوان سيأكلون معي مثل طعامي هذا؟ فقلت له: كل واحد حضر ومعه طعامه، فقال: سآكل من طعامهم، ورفض الطعام الفاخر فوزعناه علي الإخوان.
ولما دخلنا مسجد الدار وجد الأحذية خارج المصلي بدون تنظيم، فقال مداعبا: ألستم في أسر؟ قلنا: بلي، فقال: فلماذا لم تجعلوا أحذيتكم علي شكل أسر؟
وبعد الصلاة تلونا المأثورات، وعند شروق الشمس حضر الأستاذ المستشار منير الدلة رحمه الله بسيارته، فقد كان علي موعد مع فضيلته للعودة إلي القاهرة، وعند باب المنزل وقبل أن يركب السيارة سألني عن بواب العمارة، فقلت: إنه نائم، فأعطاني له صدقة وأوصاني أن أبلغه السلام.
حسن البنا والأخ أحمد شوهان
حضر إخوان مدينة أبو كبير شرقية مؤتمر الإخوان المسلمون في مدينة الزقازيق الذي يتحدث فيه فضيلة المرشد العام حسن البنا .. وهناك إلتقي الأستاذ البنا بالإخوان وتعرف عليهم كل بإسمه وعمله.
وبعد أكثر من عامين زار الأستاذ البنا مدينة أبو كبير، وعند لقائه بالإخوان فوجئ الأخ أحمد محمد شوهان بأن فضيلته يسلم عليه باسمه .. وتعجب الأخ أحمد وهو يعمل نجارا بسيطا، كيف تكون له هذه المنزلة في نفس الأستاذ البنا، وظل يباهي بها إخوانه!
وهكذا كان الإمام البنا يعطي كل أخ حقه من التقدير دون النظر إلي طبقته الاجتماعية، فالجميع إخوان مسلمون ولا تدري في أي منهم يكون الخير والأمل المنشود.
حسن البنا ومخبر المباحث العامة
كان ذلك في عام 1937م، حيث اتخذ الإخوان المسلمون بالإسكندرية دارهم في عمارة ماجستيك بميدان المنشية، وهي الدار التي تنازل عنها الصاغ محمود لبيب رحمة الله للإخوان حين تعرف علي الأستاذ المرشد في مخيم الدخيلة بالإسكندرية.
وكان رئيس القسم المخصوص أو ما كان يسمي بالبوليس السياسي "المباحث العامة" الآن، وإسمه الصاغ زهران رشدي يجند مخبرا لمراقبة نشاطنا في الشعبة وكتابة التقارير عنا .. كان هذا المخبر يلازمنا طوال اليوم حتي ننصرف في المساء إلي بيوتنا، ولم يكن مجهولا لدينا، بل كان معروفا لنا.
ولما جاء الأستاذ البنا لزيارتنا، شكونا إليه من وجود هذا الشخص بيننا، وطلبنا منه أن يسمح لنا بطرده من الشعبة، فضحك رحمة الله وقال: إن وجود مخبر بينكم ومعروف لديكم خير من وجود مخبر لا تعرفونه، فاحرصوا علي معاملته معاملة كريمة، لعل الله يصلح حاله فلا يكذب عليكم ويكتب ما يراه وما يسمعه بالحق.
وأخذنا بنصيحة الأستاذ البنا حتي رأينا الرجل يخجل من نفسه وظل علي وضعه حتي نهاية خدمته، واستمر الرجل وهو في المعاش علي حاله في زيارته لنا، وكنا نستقبله بنفس الشعور الطيب.
أدب
كان من أدب الإخوان بالقاهرة إذا أراد أحدهم أن يسافر إلي بلدته إستأذن في ذلك من الأستاذ المرشد رحمه الله، فضلا عن أنه إذا كانت هناك رسالة أو مهمة كلفه بها.
وذات يوم حضر الأخ الحاج عبد الرزاق هويدي يستأذن في السفر إلي بلدته، فلما سأله فضيلة المرشد عن سفره المفاجئ أخبره بأن جده مريض ويريد أن يعوده. فدعا له فضيلة المرشد وطلب من الحاج عبد الرازق أن يبلغ جده خالص تمنياته له بالشفاء.
وفي اليوم التالي فوجئت عائلة هويدي بالأستاذ المرشد يحضر لزيارة جدهم الكبير، وكانت مفاجأة أثارت اهتمام العائلة جميعا فأسرعت ترحب بمقدمه، وشباب عائلة هويدي لهم ميول سياسية متباينة فمنهم الوفدي ومنهم السعدي، وحول سرير الجد الكبير دارت بعض الأحاديث الخفيفة، وتكلم الجد بكلمات ترحيب وشكر للأستاذ المرشد، ونوه بفضل الإخوان في أنهم جعلوا الحاج عبد الرزاق شخصية إسلامية مؤمنة .. ورد الأستاذ المرشد، فقال له إنه لا فضل للإخوان في ذلك، فالإخوان والحمد لله يرزقون من كل عائلة كريمة بمن يمثلهم في هذه العائلة.
ونزلت هذه الكلمات الرقيقة الواعية علي قلوب الجميع بردا وسلاما، وتذوقوا فيها قيمة الدعوة والداعية.
وأذكر يوم توفي إلي رحمة الله تعالي والد أحد الإخوان الفضلاء في أسيوط .. وكان هذا الأخ علي خلاف مع الإخوان منذ سنين ولم يحاول الاتصال بهم. وبمجرد أن علم فضيلة المرشد بهذا انتقل بسرعة من القاهرة إلي بلدة هذا الأخ ناسيا كل خلاف.
وحين وصل فضيلته استقبل هناك أحسن استقبال، وحين جاء وقت الصلاة العصر توجهت جموع المعزين إلي المسجد، وبعد أداء الصلاة طلب المصلون من فضيلة المرشد أن يلقي عليهم موعظة، فوقف فضيلته وشكرهم، وقال: لقد آتيت معزيا ولم آت داعيا ... وكانت هذه الكلمات المخلصة الكبيرة المعني أعظم دعوة. وعاد الأخ إلي صفوف الإخوان راضيا مرضيا وزالت الجفوة.
نقاتل أعداءنا بالحب
لعل مما يزعجنا الآن أن نلحظ أن بعض المتصدرين للدعوة للإسلام عصبيون لم يهضموا بعد أدب الاختلاف، ويضيقون صدرا بالرأي المخالف، مسبغين عليها التقريع بل السباب بل التكفير أحيانا في غير كفر والعياذ بالله .. واضرب مثلا مقابلا، حين جاء إلي الأستاذ البنا أحد زملائه خريجي دار العلوم هو الأستاذ "س. سعد" وهو من أورع الناس وأتقاهم، ولكنه غضب كل الغضب لأن الإخوان أنشأت فرقة للجوالة والكشافة (تلبس البنطلون القصير) .. قال الأستاذ "س. سعد": "يا حسن أفندي" .. فأجاب: "نعم يا سيدي" .. قال: "إني أكرهك" .. فابتسم حسن البنا وقال في هدوء وبشاشة: "وإني والله لأحبك" ... فقال الرجل: "ولكني أكرهك في الله"، وبالبشاشة نفسها والهدوء أجاب حسن البنا مخلصا "هذا يزيدني فيك حبا" ... ولم يكن ذلك مصانعة وإنما كان الرجل يقتات علي المحبة.
وكان من الاصطلاحات الشائعة جدا علي ألسنة الإخوان "المهم: الحب في الله" .. وكان يردد في دروسه (سنقاتل الناس بالحب)، بل كانت البيعة التي صاغها لهم، أن يعاهدوا الله علي "الاستقامة والمحبة والثبات علي الدعوة".
كان يري تعدد الآراء إثراء لأي مجتمع، وكان يضرب المثل بكبار الصحابة من حول الرسول صلي الله عليه وسلم، يكون لأبي بكر رأي ولعمر رأي ولعلي رأي دون أن يؤدي الاختلاف إلي تلك الحالقة التي تحلق الدين لا الشعر، ومن تعاليم الأستاذ البنا التي طالما رددها بلا ملل قولته المشهورة التي لا تزال حية إلي اليوم "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه"، ولا نزال إلي الآن أفرادا وجماعات ودولا في حاجة إلي هذا الهدي، وكان في الأربعينيات عضوا نشطا في جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية من سنة وشيعة، مؤمنا بأن الأرضية الإسلامية المشتركة تتسع بل تحتاج لتضافر الجهود كلها ويبقي كل علي معتقده.
صراخ الأطفال
في محنة الإخوان في نهاية 1948م، وفي الفترة التي قضاها قبل استشهاده في فبراير 1949م .. كان كل هدف الإمام البنا هو إخراج المعتقلين، فتركزت كل جهوده ومساعيه حول تحقيق هذا الهدف، ولقد بلغت المأساة في ضميره ذروتها .. مأساة البيوت التي فقدت من يعولها وفقدت الأمن والسعادة والطمأنينة ... لم يستريح باله ولن تقر نفسه المعذبة ولن يهدأ قلبه الأسيف الحزين، ولن يتوقف ما يسمعه من صراخ أطفال المعتقلين يدوي في أذنيه حتي يري آباءهم قد أفرج عنهم وعادوا سالمين إلي بيوتهم ... هكذا يروي عن حاله في هذه الفترة المظلمة من تاريخ مصر... وكان الإمام الشهيد يستيقظ في الليل ويضع كلتا يديه علي أذنيه ويقول: "إنني أسمع صياح الأطفال الذين غاب آباؤهم في المعتقل".
وقالوا له: لقد اعتقلوهم جميعا وتركوك! فما هي الحكمة؟ .. إنه من الخير أن تخرج إلي سوريا أو الحجاز أو باكستان، فرفض، وقال: هذا هو الجبن، كيف أترك هؤلاء في المعتقلات ولا أسعي لإخراجهم!
وكتب له الإخوان من المعتقل يقولون: دعك من أمرنا، وخذ الطريق الذي تراه .. ولكنه أصر علي أن يخرج هؤلاء حتي يستريح.
وقال له بعض المتحمسين: ألا تري أنهم قد حاربونا أعنف الحرب فحطموا بناء عشرين عاما .. صودرت الأموال وحلت الشركات، وأغلقت الشعب والمركز العام، واعتقل الإخوان بالآلاف، أليس هذا موعد الآية: (أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا..؟).
لقد كان في استطاعته أن يعلنها حربا ويشعلها نارا ، وكان لديه من القوة ما يمكنه من دك بنياتهم من القواعد .. ولكن بماذا أجاب علي هؤلاء المتحمسين؟ ..
قال: لن أكون داعية فتنة، ولن آمر بمنكر .. ولن أغضب لشخصي، ولن انتقم لنفسي. ولما سمع بمقتل النقراشي جزع وأسف.
في منزل الأستاذ مصطفي مشهور
يجهل كثير من الناس الحقائق والدوافع التي هي سر اليقظة والحيوية في الإنسان المسلم، وينظرون دائما إلي الأشكال والمظاهر ولا يغوصون ولا يستلهمون ما وراء ذلك.
ولقد كانت لحياتنا بعض الوقت مع الإمام حسن البنا رحمه الله طبيعة معينة لم نكن ندرك تماما روعتها إلا بعد أن فقدنا تواجده بيننا، ولم ندرك هذه الحقيقة إلا بعد أن قست علينا المحن ونأت بنا عن هذه المعايشة، لقد كان حسن البنا روحا كبيرة فسيحة تملأ كل الفراغ كما يملأ الهواء كل الأجواء، وكان الحضور معه يعني أن تعيش مغمورا في بحر من السعادة والنور .. فهو يتعامل معك كأنك وحدك المقصود بكل عواطفه ومشاعره، وليست هذه العاطفة منه مجاملة أو ترضية، ولكنها عاطفة صادقة حقيقية عميقة رقيقة تجيش بالحب، والأمثلة علي ذلك كثيرة:
أذكر منها ما أحسسته بنفسي وشعوري، كان ذلك في منزل الأخ الأستاذ مصطفي مشهور في شارع زين العابدين بمحرم بك بالإسكندرية عام 1945م، وهناك وجدت مجموعة من الإخوة قد سبقوني، وبعد لحظات وصل إلي المنزل فضيلة المرشد حسن البنا وكانت مفاجأة سارة .. جلس يتحدث معنا في تطورات الدعوة وواجبنا نحوها بروح لطيفة مؤنسة، وتحدث عن أمله في الشباب وثقته بإيمانهم .. وكانت لحظات واستأذن الأستاذ للخروج .. وقمنا لوداعه، وكان عناقا حارا مؤثرا أبلغ وأعطر وأزكي ما فيه، تلك الدموع التي تساقطت من عينيه .. ويا لها من لحظات في حياتنا .. لا تنسي أبدا.
وداع
تطوع شباب الإخوان المسلمون لقتال اليهود علي أرض فلسطين الإسلامية، وكان قد تقرر نقلي من سلاح الصيانة في مرسي مطروح للعمل مع القوات المسلحة في غزة، وذهبت إلي القاهرة لأودع الأستاذ رحمه الله.
وهناك في دار المركز العام دعاني إلي لقائه في حجرة في الدور العلوي، وجلس معي علي انفراد في حديث الوالد يغمرني بعاطفة حلوة ندية، كأنه لقاء الوداع .. كان يستشعر أنني ربما يكتب لي الشهادة في هذه المعركة، لهذا طلب مني أن أسجل عن نفسي بعض المعلومات التي قد تفيد النشر إذا قدر الله لي أن أكون في سجل الشهداء، ثم وقف يودعني بنفس الحرارة ونفس العاطفة وظل يراقبني حتي غبت عن ناظريه ولسانه في دعاء وقلبه في رجاء... تلك هي القيادة التي توالي الجنود بصدق الحب والحدب، وبهذا يتكون الجنود الذين يسمعون ويطيعون القيادة بكل الإيمان والثقة والتجرد.
وحين استشهدت أول كوكبة من شباب الإخوان المسلمون في معركة دير البلح بفلسطين في مايو 1948م، خرجت جريدة الإخوان المسلمون اليومية وقد صدرت صفحتها الأولي بإطار أخضر يضم تعريفا زود بالصور الفوتوغرافية لإثني عشر شهيدا، وكتب الإمام حسن البنا يقول هذا المعني: هؤلاء الإخوان قد أحسنوا صناعة الموت واختاروا الموتة المطهرة، التي طالما هتفوا بها، لقد صدقوا الله فصدقهم الله .. لقد عجبت كيف يحزن عليهم بعض الناس، مع أن الشهداء هم الذين فروا إلي الله تعالي رغبة وفرحا بلقائه (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
مع سماحة مفتي فلسطين
روي لي الأستاذ محمد عبد الرحمن خليفة المراقب العام للإخوان المسلمين في الأردن أنه في إحدي زياراته لسماحة محمد الأمين الحسيني مفتي فلسطين، جاء ذكر الشيخ حسن البنا، فقال سماحة المفتي إنه قد تأثر كثيرا بشخصية الأستاذ حسن البنا، وقص عليه هذه القصة: ذات يوم زاره حسن البنا وجلس إلي جواره وتجاذبا أطراف الحديث، وبعد برهة من الوقت جاء ضيف، فتخلي حسن البنا عن مكانه بجواري .. وكلما دخل ضيف آخر ترك حسن البنا مكانه مفسحا للقادم الجديد وهكذا حتي أصبح مكانه إلي جانب باب حجرة الطعام .. ولما حان وقت الطعام وفتحت الغرفة، وكان من الطبيعي أن يكون أول الداخلين هو حسن البنا، ولكني لاحظت أنه أخذ يتراجع حتي صار آخر الداخلين .. فأدهشني هذا الخلق الرفيع!!
حسن البنا ... ورئيس وزراء سوريا
روي لي الأستاذ محمد عبد الرحمن خليفة المراقب العام للإخوان المسلمون في الأردن، أن الأستاذ إحسان الجابري رئيس وزراء سوريا، زار مصر بالقطار من طريق غزة ثم العريش.
يقول الأستاذ إحسان: أنه لم يتوقع الذي رآه!! ذلك أنه ما من محطة من محطات السكة الحديد علي طول الطريق إلي القاهرة يقف عندها القطار إلا ويجد هتافات تحيي جهاد سوريا وكفاحها تشق عنان السماء ويتقدم من بين هذه المظاهرة وفد من جماعة الإخوان المسلمون في المنطقة لتحيتي بكل عواطف الحب والاحترام والتقدير مع تمنياتهم لشعب سوريا الشقيق بالعز والسؤدد .. واستمر الحال علي ذلك حتي وصلت إلي محطة سكة حديد القاهرة، وفيها وجدت الإخوان يقفون في انتظاري واستقبلوني بالبشر والحفاوة والترحاب.
ويعقب الأستاذ إحسان لشقيقه الأستاذ سعد الله الجابري، علي استقبالات الإخوان في مصر له: إنه لم يكن يحس نحو الإخوان بشيء من الصلة، ولكن بعد ذلك شعر بعاطفة تشده نحو الإخوان المسلمون.
حسن البنا والمعلم إبراهيم كروم
رغب الإخوان في حي بولاق بالقاهرة الاحتفال بذكري مولد الرسول صلي الله عليه وسلم، فذهبوا يبحثون عن أرض فضاء يقيموا عليها سرادقا يؤمه الناس بهذه المناسبة التي سيخطب فيها فضيلة المرشد. وفيما هم يبحثون وقع نظرهم علي أرض مناسبة، ولكنهم علموا أن صاحب الأرض (مسيحي) وبينما هم في حيرتهم يتناقشون الأمر إذا برجل كان يجلس علي مقهي مجاور لهذه الأرض، فسألوه: هل يمكن إستئجار هذه الأرض لنقيم عليها حفلا إسلاميا بمناسبة ذكري مولد الرسول صلي الله عليه وسلم؟
فاستقبلهم الرجل بأحسن الأخلاق، وقال لهم: إن هذه الأرض ليست ملكا لي، ولكني نيابة عن صاحبها أقول لكم أقيموا الحفل علي ضمانتي ... فعجب الإخوان من سماحة الرجل وشجاعته، وعرفرا أخيرا أن هذا الرجل هو (المعلم إبراهيم كروم) فتوة حي بولاق الشهير... وذهب الإخوان إلي الأستاذ البنا وأخبروه بما حدث، فكان ذلك مبعث سرور له.
وجاء موعد الحفل، وهرع المسلمون للاستماع إلي مناقب الرسول صلي الله عليه وسلم في هذا الاحتفال ... وحين وصل الأستاذ البنا إلي سرادق الاحتفال توجه رأسا إلي المقهي وسأل عن المعلم إبراهيم كروم وسلم عليه بحرارة وشكره علي موقفه، وحضر المعلم إبراهيم كروم الحفل واستمع إلي فضيلة المرشد وهو يحييه مرة ثانية أمام الجماهير، وما إن انتهي الحفل حتي أصر المعلم إبراهيم كروم علي دعوة الأستاذ علي كوب شاي في المقهي.
ومنذ ذلك اليوم وإبراهيم كروم دائم الحضور إلي المركز العام، ولم تنقطع صلته به في يوم من الأيام.
وفي حوادث مارس 1954 عندما هب الشعب المصري يطلب الخلاص من طغيان جمال عبد الناصر وديكتاتوريته العسكرية، كان إبراهيم كروم علي رأس المظاهرة الشعبية الكبري التي أجبرت الطاغية علي التنحي فيما يسمي بمقررات مارس التاريخية ... وعندما استطاع الطاغية بالمكر والخديعة أن يجهض هذه المقررات قبض علي إبراهيم كروم وحكم عليه بالسجن وتوفي رحمه الله بعد الإفراج عنه.
مع الداعية الإسلامي عليم الله الصديقي
قام فضيلة المرشد بزيارتنا بالإسكندرية، وكان بصحبته المبشر الإسلامي عليم الله الصديقي ... وبينما نحن جلوس مع الأستاذ وضيفه حضر وفد من الإخوان بشعبة الحجاري بالإسكندرية وقدموا هدية للأستاذ المرشد عبارة عن شارة الإخوان المسلمون (سيفان متقاطعان وبينهما المصحف الشريف) محفورة علي قطعة من الخشب الأبانوس موضوعة في علبة جميلة ... وما أن قام الأخ محمد حمام، نائب الشعبة بتقديم الهدية إلي الأستاذ المرشد، حتي قام فضيلته من فوره إلي الضيف الجليل عليم الله الصديقي، وقال: وأنا بصفتي المرشد العام للإخوان المسلمون أتقدم بهذه الهدية إلي مولانا وضيفنا عليم الله الصديقي .. وقام الرجل وتسلم الهدية في بشر وسرور.
ولقد كنا في ذهول من سرعة بديهة الأستاذ البنا وفطنته لأمر غاب عن كثير من الإخوان، وكان درسا في رقة الشعور والإحساس.
وعلي ذكر شعبة الحجاري .. عقد الإخوان في شعبة محرم بك مؤتمرا، وفيما كان الأستاذ يلقي خطابه في هذا المؤتمر جاء إخوان شعبة الحجاري إلي المؤتمر بهتافاتهم المدوية: (الحجاري تحييك يا بنا ... الحجاري تحييك يا بنا) فقطع الأستاذ خطابه ورد عليهم في الميكروفون هاتفا (ومن للحجاري غير البنا) .. فاهتز المؤتمر بالتهليل والتكبير، وصارت مثلا ودعابة يستروح بها الإخوان.
حسن البنا والشيخ محمد الأنصاري
جاء لزيارة شعبة الإخوان المسلمون في حي محرم بك بالإسكندرية رجل في سن الخمسين من صعيد مصر، يرتدي جلبابا ويلبس في قدميه خفين، عرفنا بنفسه أنه محمد الأنصاري من الإخوان بمدينة الإسماعيلية، ويعمل في هيئة السكك الحديدية في تركيب وخلع القضبان، وكان يأتينا علي فترات يمضي بعض الوقت في الشعبة ثم ينصرف دون أن يأبه له أحد أو يلتفت إليه شاب أو يهتم به الاهتمام الواجب فقد كانوا في شغل عنه.
وتمضي أيام ويعقد إخوان محرم بك مؤتمرا يحضره الأستاذ المرشد .. في قاعة اللقاء يري الأستاذ البنا الشيخ محمد الأنصاري بين الحضور، فيقبل عليه في حرارة واهتمام بالغ ويعانقه في حب وشوق، ثم يأخذه من يده ويجلسه إلي جواره في الصف الأول ... وحين تقدم الأستاذ البنا لإلقاء كلمته رحب بالأخ الضيف واحتفي به، وقال: يحضرنا في هذا اللقاء أخ من الرعيل الأول الذين عاصروا الدعوة منذ نشأتها في الإسماعيلية هو الشيخ محمد الأنصاري.
وكان درسا بليغا في التربية في معني الأخوة ومعرفة أقدار الناس، فرب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم علي الله لأبره!
ولم تمض شهور حتي قاد الإمام البنا أكبر مظاهرة فوق النصف مليون من الأزهر الشريف إلي فندق الكونتيننتال حيث يوجد زعماء العالم العربي للدفاع عن